يقرأون الصحف اللبنانية صباح اليوم الذي تلى اغتيال الحريري
يقرأون الصحف اللبنانية صباح اليوم الذي تلى اغتيال الحريري

استمع إلى المقال:

​​

​​

بقلم حازم الأمين/

أشهر قليلة تفصلنا عن الذكرى السنوية العاشرة لتأسيس المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. قبل أيام، باشرت المحكمة جلسات تسبق حكمها النهائي على المتهمين بارتكاب جريمة اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري.

لكن السنوات العشر المنصرمة شهدت وقائع متصلة بعمل هذه المحكمة تصلح لتخصيب الخيال البوليسي التفاعلي. "غيمينغ" سياسي وأمني لم يسبق لجريمة قتل أن حظيت بمثله. فمعظم المتهمين بالجريمة قتلوا واحدا بعد الآخر، في لعبة حرب مكشوفة. عماد مغنية ومصطفى بدر الدين وغازي كنعان ورستم غزالي وجامع جامع؛ جميعهم قتلوا في السنوات العشر من عمر المحكمة. وهؤلاء وإن لم تتهم المحكمة بعضهم، إلا أنهم على صلة وثيقة بما حفلت به محاضر التحقيق.

من قتل الحريري مهد لحروب هائلة شهدتها مرحلة ما بعد الجريمة

​​ومن المرجح أن يكون غيرهم قد قتل أيضا، طالما أن الموت اقترب من المتهمين ومن المنفذين إلى هذا الحد، وطالما أنه موت معلن ومحاط بروايات شديدة الركاكة وغير ساعية لانتزاع صدقية. فغازي كنعان مات منتحرا ورستم غزالي داهمه مرض غامض وجامع جامع مات وهو "يقاتل الإرهاب" في شمال سورية. أما مغنية وبدر الدين فموتهما وإن لابسه غموض، إلا أن الرواية عنه كانت أكثر تماسكا.

نظرة من مسافة عشر سنوات على هذه الوقائع ستكون مختلفة، خصوصا لأناس مثلنا عايشوا تفاصيل ما جرى، وهو ما أفقدهم القدرة على التقاط مشهد أبعد.

لعل الأكثر تراجيدية في ما شهدته سنوات المحكمة العشر، هو مشهد ابن القتيل، أي سعد رفيق الحريري، في قصر المهاجرين في دمشق وفي ضيافة من يعتقد أنه قاتل والده. الأرجح أن سعد في تجواله في أنحاء القصر راح يبحث عن الغرفة التي شهدت صدور قرار الإعدام.

اقرأ للكاتب أيضا: لبنان: العنصرية بوصفها استثمارا

وهنا صار بالإمكان استدخال التراجيديا على البعد البوليسي للحكاية. علما أن الخيال لم يأتِ دوره بعد، فالوقائع أعلاه كلها صحيحة وموثقة، وجرت تحت أنظارنا نحن أهل القتيل وأهل القاتل. وهي جرت من دون أن يكون لنا يد فيها.

نستيقظ في الصباح على خبر موت رستم غزالي، وفي اليوم الثاني نشاهد مقاطع من جنازته "المتواضعة" في دمشق. لم يحضرها أي من رجاله، وأي من أفراد الطبقة السياسية في لبنان ممن صنعهم الرجل من ألفهم إلى يائهم. دور الخيال هنا مقتصر على التوقع، وهذا الأخير واقعي وممكن.

فلنتخيل مثلا سياسيا لبنانيا يشاهد عبر التلفزيون جنازة الجنرال صاحب الأفضال عليه، أو سياسيا آخر كان غزالي قد صفعه في لحظة غضب! هذه كلها مشاهد من فيلم غير متخيل عن الجريمة. الأول سيكون سعيدا بأنه لم يجبر على حضور الجنازة والثاني سيكون سعيدا بموت من صفعه، والاثنان لن يصرحا بما انتابهما من مشاعر.

وسنوات المحكمة العشر هي سنوات سياسية أيضا، تألفت حكومات في ظلها، وأسقطت حكومات على ضفافها. ثورة السوريين على نظامهم انطلقت بالقرب منها، وانتصار النظام على الثورة جعل من الجريمة أمرا من الممكن أن يتكرر.

الجريمة حدث انعقد عليه ما لا يحصى من الحقائق. ولبنان وسورية ترنحا وفق ما أملته من نتائج. فمن قتل الحريري، أطلق شياطينا جديدة وافتتح زمنا مختلفا. من قتل الحريري قوض نفوذ النظام في سورية، لكن ليس لمصلحة خصوم هذا النظام إنما لمصلحة رعاته الأكبر. ومن قتل الحريري، خلق شريحة كبيرة من "الأيتام" السياسيين لم تجد إلى اليوم أبا بديلا. ومن قتل الحريري مهد لحروب هائلة شهدتها مرحلة ما بعد الجريمة.

معظم المتهمين بالجريمة قتلوا واحدا بعد الآخر، في لعبة حرب مكشوفة

​​تجري اليوم وقائع جلسات المحكمة في لاهاي، بصفتها تتويجا لعمل القضاة والمحققين طوال السنوات العشر. من المفترض أن هؤلاء كانوا يعملون بعيدا عما جرى بعد وقوع الجريمة. فبينما كان المحقق يوثق الوقائع مات رستم غزالي! من المفترض ألا تهتز الحكاية بفعل هذا الحدث. وبينما كان المدعي العام يتلو البيان الاتهامي مات المتهم الرئيسي! وهذا ما لا يجب أن يغير بالقرار الظني!

فمثلما عمل القضاة ببرود وصمت هائلين، عمل المنفذون على نحو مواز، بحيث صار لدينا حكايتين، واحدة في لاهاي وأخرى في بلاد الشام. فصلهما يفيد كلا المؤلفين، فهو يؤمن للأول الابتعاد بالحكاية عن بيئتها مما يسهل عليه بناءها وتقميشها، ويؤمن للثاني تصوير الحكاية بصفتها لعبة بين قبور أبطالها، لا بين الأحياء منهم.

اقرأ للكاتب أيضا: الجنرال سليماني في متاهته العراقية

الأرجح أن حكم المحكمة لم يعد مهما، سياسيا على الأقل. النظام السوري أعاد التقاط أنفاسه، وحزب الله منتصر حتى الآن، ولن يفيد الحكم "أهل القتيل" ذلك أنهم في أوضاع سياسية لا تمكنهم من الاستثمار فيه، لا بل ربما أربكهم الحكم وضيق خياراتهم.

لكن، حكم المحكمة سيفيدنا نحن من شهدنا الجريمة وعشنا على وقع ما رتبته ما مآس وحروب. سيفيدنا في أن يصبح بين أيدينا حكاية مكتملة العناصر، ليس عن الجريمة فحسب، إنما حكاية لا لبس فيها عن أنفسنا وعن ما جرى حولنا. حكاية لا ترتب مهام كبرى بقدر ما تؤسس لوعي ضمني في أننا نعيش على نحو قريب جدا من جريمة كبرى لم تنته فصولها بعد.

ــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.