A poster depicting the former government advisor and political analyst Hisham al-Hashemi, who was killed by gunmen is seen at…
تصدّى هشام الهاشمي لتفنيد مشروع "داعش" وتفكيك منظومته وأيديولوجيته التي تدعو إلى "الدولة الوهم"

ينتمي هشام الهاشمي إلى جيل كان يتأمل أن يعيش في ظل دولة كما قرأ عنها في الأدبيات السياسية. في أيام دولة الدكتاتور كان جيل هشام يجد في الأيديولوجيات الدينية بتوجهاتها اليمينة واليسارية طريقة للتعبير عن رفضهم لقمع وبطش النظام الشمولي. وبعد إسقاط الدكتاتورية كان الأمل بالتغيير ممزوجا بالتفاؤل بأننا نخطو نحو العيش في دولة تكون وظيفتها الأولى والأخيرة هي حماية المواطن وتحقيق رفاهية شعبها، لكنَّ الأمل والتفاؤل قد حوّله الإرهاب، بالإضافة إلى غباء الطبقة السياسية وفشلها وفسادها، إلى كابوس يخيّم على حياة العراقيين.

وبعد أن دمَّر ثالوث الإرهاب والفساد والفشل بقايا الدولة، كانت النتيجة في 2014 ظهور جماعات تنظيم "داعش" الإرهابية وأصبح مقرّها في ثلاث محافظات عراقية. تصدّى هشام الهاشمي لتفنيد مشروعه وتفكيك منظومته وأيديولوجيته التي تدعو إلى "الدولة الوهم". وكان موقفا بطوليا من هشام، لأن بغداد وكل محافظات العراق كانت مفتوحة أمام جماعات التنظيم وخلاياه النائمة والصاحية يسرحون ويمرحون بها ويختارون أهدافهم بالتوقيتات والطريقة التي يحددونها.

تصدي الهاشمي، كما تصدى الكثير من أبناء جيله صحفيون وأكاديميون، لم يكن طمعا بمنصب أمني أو سياسي أو رغبة للسكن في قصور الخضراء أو على أقل تقدير أن يكون من حاشية السلطة، وإنما دفاعا عن مشروع بناء الدولة؛ فهو السبيل الوحيد لضمان حقوق المواطن وهو المشروع الحقيقي الذي يوفر العيش بأمان ورفاهية، وعدا ذلك من عناوين "الدولة الموازية" أو "دولة المليشيات" أو "دولة الإرهاب" كلها عناوين تخدم مافيات السياسة وزبائنها ولا تخدم مواطني الدولة.

لم تخسر دولة معركتها مع جماعات وتنظيمات تريد التنافس معها على فرض سلطتها وقانونها إلا بتخاذل قادتها وغياب إرادتهم السياسية

هشام الهاشمي لم يكن شخصا ولم يغتالوه لشخصه، هشام كان صوتا وكلمة تدافع عن الدولة، واغتياله محاولة لإسكات كلّ من يريد للعراق أن يكون دولة يحكمها القانون والمؤسسات وليس العصابات الإرهابية ومافيات السلطة. واغتيال هشام ليس إلا رسالة لجميع الأصوات التي تهدد مشروع الجماعات التي صادرت وظائف الدولة لتعظيم مواردها وبناء إمبراطوريتها التي باتت موازية للدولة.

ولم يكن الهاشمي يؤمن بأن الطريق الوحيد للمواجهة هو استخدام العنف المنظم الذي تحتكره الدولة في مواجهة الكيانات التي تريد ابتلاعها وتحاول شرعنة امتلاكها للسلاح والنفوذ وتسعى لكي تعلو على الدولة ومؤسساتها وقانونها، بل كان يدعو إلى احتواها "بفتح حوار قانوني وطني" قبل اللجوء إلى خيار المواجهة المسلحة ومعالجة المتمرد بفرض القانون ولو بالعنف. وذلك ما كتبه في مقاله الذي نشرته صحيفة العالم البغدادية بعنوان "المواجهة مع الفصائل الهجينة". لكن من قتله ومن أصدر الأمر بقتله لا يعرف غير لغة السلاح لإسكات أي صوت يسعى لحل الأزمات بإنفاذ القانون وليس العنف.

والرسالة التي يجب قراءتها من اغتيال الهاشمي، بأنها رسالة تحدي لحكومة مصطفى الكاظمي، فالهاشمي كان مدافعا عن حكومته وعن خطواتها في المواجهة مع الجماعات التي تريد إحراجها وإضعافها أمام الرأي العام، ودفاع الهاشمي لم يكن بعنوان رسمي وإنما إيمانا منه بأن الدولة يجب أن تفرض سيطرتها ونفوذها. وبهذا الموقف كان أكثر شجاعة من جوق المستشارين الذين عينهم الكاظمي، إذ بعد أن كانوا ينتقدون واقع اللادولة اختاروا اللوذ بالصمت والسكن بالقصر الرئاسي في المنطقة الخضراء.

المفارقة في اغتيال الهاشمي، هي أن لا الحكومة ولا من نفذ وأمر بالاغتيال كان يتوقع تعاطف الرأي العام ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية والصحف العالمية والبعثات الدبلوماسية، ولم يكن التعاطف الشعبي مع الاغتيال موضوعا عفويا، وإنما كان تعبيرا واستنكارا لاغتيال مَن يدافع عن الدولة. إذ لا يزال الكثير من العراقيين يعولون على حكومة الكاظمي باتخاذ خطوات نحو الجماعات التي تريد أن تبقي وضع اللادولة.

حادثة اغتيال الهاشمي لا يمكن أن يوازيها ردّ فعل إلا بإعلان بداية المعركة ضدّ كل من يريد أن يعلو على الدولة، ويريد إرسال رسائل الاغتيال والتهديد بالقتل كتحدي للحكومة ولكل الأصوات التي تدعو إلى حصر السلاح بيد الدولة وفرض هيبتها. 

وتبقى المبادرة بيد حكومة الكاظمي، فعلى الرغم من تلكؤ الحكومة بتوفير رواتب الموظفين وسوء إدارة مواجهة جائحة كورونا إلا أن الكثير لا يزال يعتقد أن المعركة الأهم هي الآن ضد الجماعات المسلحة باختلاف عناوينها.

حادثة اغتيال الهاشمي لا يمكن أن يوازيها ردّ فعل إلا بإعلان بداية المعركة ضدّ كل من يريد أن يعلو على الدولة

دخل العراقيون في معارك شرسة مع الجماعات الإرهابية منذ 2003 إلى يومنا هذا، ولم يتحقق النصر بإرادة السياسيين ولا بخططهم التي لم تكن موجودة أصلا إلا لحماية المنطقة الخضراء، بل أن النصر قد تحقق بإرادة العراقيين الذين كان إصرارهم على مواصلة الحياة ومواجهة التحديات أكبر من إرادة الموت والدمار التي حاول نشرها الجماعات الظلامية. 

وقريبا سيقود العراقيون معركتهم النهائية لاستعادة الدولة، ووضع حدّ لحالة الفوضى التي تسعى إليها الجماعات المسلّحة للإبقاء على سلطتها ونفوذها من خلال إشاعة الفوضى والخراب والدمار والموت المجاني.

ولم تخسر دولة معركتها مع جماعات وتنظيمات تريد التنافس معها على فرض سلطتها وقانونها إلا بتخاذل قادتها وغياب إرادتهم السياسية. وعليه فالاختبار الحقيقي الآن أمام الكاظمي وحكومته، إذ عليها أن تختار ما بين أن تكون حادثة اغتيال الشهيد هشام الهاشمي هي الدافع نحو استعادة الدولة، أو إبقاء الوضع على ما هو عليه، والتعايش مع دولة بسلطات وقوى موازية. 

ومن يختار الدولة سيكون معه الجمهور ويخلّده التاريخ. أما من يختار الصفقات السياسية مع القوى اللادولتية في سبيل رغبة شخصية دافعها البقاء بالسلطة، فإن التظاهرات التي أتت به ستلحقه بسابقه الذي رحل عن كرسي رئاسة الوزراء بالعار الذي سيلاحقه طوال التاريخ.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.