تمثال لابراهيم باشا في القاهرة
تمثال لابراهيم باشا في القاهرة

أثار مسلسل "ممالك النار" الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأسبوع الماضي، مع بداية عرضه على شاشة قناة MBC. فالعمل الفني، صاحب الميزانية الأضخم في تاريخ الدراما العربية، والتي وصلت ميزانية إنتاجه إلى 40 مليون دولار، فتح النقاش حول طبيعة دخول وحكم العثمانيين لمصر. وهل ما فعلوه يعتبر فتحا أم غزوا؟ وهل ننظر إليه باعتباره تاريخا مجيدا للخلافة الإسلامية أم احتلالا غاشما؟

المسلسل من إنتاج شركة "جينو ميديا"، وبطولة الفنان المصري خالد النبوي الذي يقوم بدور طومان باي آخر سلاطين المماليك والفنان السوري محمود نصر الذي يقوم بدور السلطان العثماني سليم الأول. وتدور أحداثه حول الصراع بين العثمانيين والمماليك، وعن معركة مرج دابق التي حدثت بينهما سنة 1516، والتي حاول خلالها السلطان المملوكي قانصوه الغوري صد العثمانيين بقيادة سليم الأول. ولكنه قُتل فيها بعد خيانته من قبل خاير بك، والي الغوري، في حلب.

المسلسل أيضا يحكي عن دفاع السلطان المملوكي الأخير الأشرف طومان باي عن مصر، وهو الذي تولي الحكم لفترة قصيرة، 3 أشهر، بعد مقتل عمه الغوري. وسروي كيف انهزم أمام سليم الأول رغم شجاعته، بعد خيانة بعض المماليك له. وكيف شنقه سليم على باب زويلة وترك جثته معلقة لمدة 3 أيام، مما أدى إلى نهاية حقبة المماليك وسيطرة العثمانيين على مصر والشام.

المميز في هذا المسلسل أنه يكسر الصورة المثالية المصطنعة عن الخلافة العثمانية

وبمجرد الإعلان عن المسلسل، وحتى من قبل بداية عرض حلقاته يوم 17 نوفمبر الحالي، بدأ الجدل حوله على مواقع التواصل الاجتماعي وبدأت بعض الأصوات التركية وأخرى تنتمي لتيار الإسلام السياسي في الهجوم عليه، باعتباره يشوه تاريخ الخلافة العثمانية من وجهة نظرهم.

المميز في هذا المسلسل أنه يكسر الصورة المثالية المصطنعة عن الخلافة العثمانية، التي رسختها الدراما التركية خلال السنوات الماضية من خلال مسلسلات مثل "قيامة أرطغرول". فكثيرون ممن مازالوا يحلمون بعودة الخلافة لا يروون في تاريخها سوى قصصا رومانسية حالمة عن أبطال عسكريين أخضعوا خصومهم بالقوة، وأنهم فعلوا ذلك فقط من أجل نصرة الدين على أعدائه، على خلاف وقائع التاريخ التي تنفي هذه الصورة.

والحقيقة أنه لو قرأ هؤلاء التاريخ بدقة لما تمنوا رجوع هذه الخلافة ولو ليوم واحد. فهؤلاء مثلا لا يتذكرون، أو ربما لا يحبون أن يتذكروا، كيف قتل بعض هؤلاء "الأبطال" إخوتهم من أجل السلطة، كما في حالة سليم الأول أو في حالة جده محمد الفاتح، الذي سن قانون يعطي لمن يحكم الحق في قتل إخوته الذكور لحفظ سلطته. وكان نصه كالتالي: "وإن تيسرت السلطنة لأحد من أبنائي، فإنه ومن أجل المصلحة العامة يصح له قتل إخوته، إن هذا قانون آبائي وأجدادي، وهو كذلك قانوني، ولقد جوز أكثر العلماء ذلك، فليعمل بموجبه حالا".

كما أنهم في حالات كثيرة يتناسون أن القاتل مسلم والمقتول أيضا مسلم. ففي هذه الحالة سليم الأول كان حاكما مسلما والسلطان الغوري والسلطان طومان باي كانا مسلمين أيضا، وبالتالي فاستخدام حجة ومبرر نصرة الدين ونشر الإسلام لتبرير أطماع السلطة لا ينطبق على هذه الحالات.

والأهم أنهم يتغافلون عن حجم الظلم والذل والإهانة والقتل والدم الذي قام به هؤلاء "الأبطال" في حق خصومهم. فسليم الأول قتل آلاف المصريين بمنتهي الوحشية وسمح لجنوده بأن ينهبوا بيوت المصريين وخيراتهم. فقد وصف ما حدث في مصر، المؤرخ ابن إياس الذي عايش هذه الفترة في كتابه الشهير "بدائع الزهور في وقائع الدهور" عن طريق أبيات شعر لأحد الشعراء المصريين الذين شاهدوا ما حدث وقال:

نبكي على مصر وسكانها            قد خربت أركانها العامرة

وأصبحت بالذل مقهورة            من بعد ما كانت هي القاهرة

ويذكر ابن إياس قول سليم حين كان في معسكره قبل دخول القاهرة: "غدا أدخل مصر فأحرق بيوتها وألعب بالسيف في أهلها". كما يحكي عن كيف حزن المصريين على مقتل طومان باي فيقول: "فلما شنق وطلعت روحه، صرخت عليه الناس صرخة عظيمة وكثر عليه الحزن والأسف".

وللأسف لم يكتف سليم بذلك، فقد خطف صناع الحضارة في مصر، بأن نقل شيوخ الحرفيين وأصحاب المهن والصناع المهرة المصريين لإسطنبول عنوة، مما تسبب في اختفاء حوالي 50 حرفة من مصر.

هل سيكون المسلسل فرصة لفتح حوار عن حقيقة ما فعله العثمانيين في مصر؟

ففي كتابه "سندباد مصري: جولة في رحاب التاريخ" يحكي حسين فوزي عما فعله سليم الأول عندما غزا مصر ويقول: "وحمل سليم معه، بطريق البر على ألف جمل ـ كما أشيع ـ أحمالا من الذهب والفضة والتحف والسلاح والصيني والنحاس المكفت، ثم أخذ الخيول والبغال والجمال والرخام الفاخر، ومن كل شيء أحسنه. وكذلك غنم وزراءه من الأموال الجزيلة، وكذلك عسكره فإنهم غنموا من النهب ما لا يُحصى، وصار أقل فرد منهم أعظم من أمير مئة، مقدم ألف. وبطلت من القاهرة نحو خمسين صنعة".

ومن الملفت للانتباه أن القاهرة كان بها شارع باسم سليم الأول في حي الزيتون، ولكن الدكتور محمد صبري الدالي أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة حلوان طالب محافظة القاهرة بإزالة اسمه، "مشيرا إلى أن السلطان سليم الأول جرد مصر من استقلالها، وجعلها ولاية تابعة للدولة العثمانية، فضلا عن قتله آلاف المصريين خلال دفاعهم عن بلادهم". وبالفعل تم تغيير اسم الشارع إلى شارع "شهداء الوطن".

والسؤال هنا هو هل سيكون المسلسل فرصة لفتح حوار عن حقيقة ما فعله العثمانيين في مصر؟ وهل سيشجعنا على إعادة قراءة تاريخنا بشكل علمي ومحايد لنحدد من يستحق التكريم ومن لا يستحق؟ وهل سيشجعنا على إعادة تعريف مفاهيم صارت شبه مقدسة مثل مفهوم الفتح باسم الدين؟ أتمنى ذلك.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.