أغنية "لا أستطيع التنفس" احتفلت بالاحتجاجات التي خرجت بعد مقتل رجل أسود على يد شرطي أميركي أبيض
متظاهرة في سياتل ترفع لافتة كتب عليها الجملة التي رددها جورج فلويد قبل مقتله على يد الشرطة: "لا أستطيع التنفس"

أميركا تحترق. الشرارة اندلعت يوم الاثنين من مدينة منيابوليس، بولاية مينيسوتا، في وسط البلاد ووصلت نيرانها وجمرها إلى 75 مدينة، من نيويورك في الشمال إلى ميامي في الجنوب، من فيلادلفيا في الشرق إلى لوس أنجلس في الغرب. 

صباح الأحد استيقظ ملايين الأميركيين وهم يراقبون الحرائق التي التهمت مئات المحلات التجارية والمباني الحكومية وسيارات الشرطة ويشمّون روائح دخانها، بعد ليلة رابعة من المواجهات بين المتظاهرين ورجال الشرطة وعناصر الحرس الوطني الذي انتشر في 12 ولاية، وبعد فرض حظر التجول في أكثر من 20 مدينة.  

خلال مواجهات ليلة السبت ـ الأحد اختلط دخان الحرائق بدخان الغاز المسيل للدموع، على خلفية إطلاق رجال الشرطة للرصاص المطاطي ضد المتظاهرين، بما في ذلك المتظاهرين السلميين، الذين لم يمتثلوا لأوامر حظر التجول. التظاهرات في بداية الأسبوع كانت سلمية على الرغم من مشاعر الغضب العارم الذي عبّر عنه المتظاهرون. ولكن مع اقتراب الأسبوع من نهايته، اندست في التظاهرات عناصر متطرفة قامت بحرق الأماكن العامة والخاصة ومارست النهب، وقال شهود عيان ومسؤولون محليون إن معظمها من العنصريين البيض الذين يريدون الإساءة إلى الأميركيين من أصل أفريقي واستفزاز مواجهات عنصرية مع قوات الأمن، وهذا ما أكدته تقارير صحفية، وتحليلات الخبراء.  

بعض الخبراء أشاروا إلى احتمال ضلوع أيد خفية خارجية تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لتأليب الأميركيين ضد بعضهم البعض كما فعلت روسيا في انتخابات 2016. في المقابل ركز الرئيس دونالد ترامب والمسؤولون في البيت الأبيض اتهاماتهم ضد اليساريين وتحديدا جماعةAntifa  المتطرفة والمناوئة للفاشية. مستشار الأمن القومي روبرت أوبرايان قال يوم الأحد إن هذه الجماعة مسؤولة عن أعمال العنف، بينما قال الرئيس ترامب إنه يعتزم تصنيف Antifa تنظيما إرهابيا داخليا، مع أنه لا يملك مثل هذه الصلاحيات.

رجل اسمه جورج فلويد

 يوم الإثنين، صعق الملايين من الأميركيين، ولاحقا الملايين في العالم وهم يشاهدون شرطيا أبيض اسمه ديريك تشوفن يضع ركبته اليسرى وثقل جسده على رقبة جورج فلويد، الأسود، والبالغ من العمر 46 سنة، والذي كان مكبل اليدين وممدا على الطريق قرب سيارة الشرطة بعد أن رماه تشوفن وثلاثة شرطيين آخرين على الأرض.

وكان فلويد قد اعتقل بعد الاشتباه باستخدامه لعملة مزورة. وأظهرت مختلف أشرطة الفيديو التي التقطها عدد من المارة أن فلويد لم يقاوم الشرطة، ولم يكن مسلحا. وعلى مدى ثماني دقائق، بدت وكأنها أبدية بطيئة، كان الشرطي تشوفن يضغط فيها بركبته المدعومة بثقل جسده على عنق فلويد الذي كان يصرخ ويردد بصوت مبحوح "لا أستطيع التنفس"، "لا أستطيع التنفس". ولكن مناشداته لم تصل إلى أذني الرجل الذي كان يحرمه من أنفاسه الاخيرة. كما لم تنفع مناشدات ومطالب وصراخ الناس الذين كانوا يراقبون الجريمة بهلع للشرطي تشوفن وزملائه المتواطئين معه بوقف إعدامهم البطيء لجورج فلويد. 

ولدت الولايات  المتحدة بخطيئة أصلية لم تستطع حتى الآن محوها كليا. مؤسسة العبودية كانت القضية المحورية التي أخفق مؤسسو الجمهورية الأميركية في حلها قبل إعلان الاستقلال من بريطانيا

خلال هذه الدقائق الطويلة، وضع الشرطي تشوفن يده في الجيبة اليسرى لسرواله ليؤكد لامبالاته بما يرتكبه، بينما كان ينظر بوجه بارد وغير منفعل إلى الفتاة الشابة التي كانت تسجل على هاتفها النقال وقائع اغتيال رهيب. وقبل أن يموت بصمت، وبعد أن أدرك أنه سيغادر هذه الدنيا، لجأ جورج فلويد إلى المكان الآمن الوحيد الذي كان يوفر له الدفء والحنان والعزاء في حياته، إلى أمه التي سبقته إلى المنية بثمانية عشر شهرا قائلا "أمي، أمي هذه نهايتي". 

صرخة "لا أستطيع التنفس"، تتردد في الولايات المتحدة منذ سنوات. "لا أستطيع التنفس" كانت آخر كلمات إريك غارنر، الأميركي من أصل أفريقي الذي اعتقله بعنف عدد من رجال الشرطة في نيويورك في 2014 للاشتباه ببيعه للسجائر بشكل غير شرعي، كان من بينهم الشرطي دانيال بانتاليو الذي لفّ ذراعه حول عنق غارنر لقطع نفسه، بعد أن رماه مع عدد من زملائه أرضا. وخلال دقائق، وبعد صراخه المستمر "لا أستطيع التنفس"، لفظ غارنر أنفاسه الأخيرة، بينما كان المارة يسجلون موته القاسي على هواتفهم النقالة. 

متظاهرتان في مينيابوليس، المدينة التي قتل فيها جورج فلويد، خلال تظاهرات تطالب بالعدالة له، وقد رفعت إحدى المتظاهرات شعار: "ماذا لو كان ابنك؟"

صرخة غارنر، تحولت إلى شعار للتظاهرات التي عمت البلاد بعد مقتله. وعلى الرغم من فظاعة الجريمة العلنية إلا أن الشرطي بانتاليو لم يواجه القضاء. جورج فلويد، هو أميركي أسود آخر يقتل على أيدي الشرطة أو على أيدي عنصريين يؤمنون بتفوق العرق الأبيض. 

خلال شهر فبراير قام رجلان أبيضان، أب وابنه، بتعقب شاب أسود اسمه أحمد أربري، كان يمارس رياضة الركض وأردياه قتيلا لأنه قاومهما عندما حاولا اعتقاله بتهمة السرقة، وهي تهمة لا أساس لها. بقيت الجريمة طي الكتمان لأشهر قبل الكشف قبل أسابيع عن وجود شريط سجل الاغتيال، ما أدى إلى اعتقال الرجلين. 

خلال السنوات الماضية قتل عشرات الشباب السود في مثل هذه الظروف. وفي أعقاب كل جريمة، كانت المظاهرات والاحتجاجات تنظم في مختلف أنحاء البلاد، وكانت الانتقادات والاتهامات توجه للشرطة، والأهم من ذلك الانتقادات ودعوات إصلاح النظام الجنائي في البلاد بتقاليده وممارساته التمييزية ضد الشباب السود. هذه الجرائم أدت إلى ولادة منظمة "حياة السود مسألة هامة" (Black Lives Matter)، لتسليط الاهتمام على هذه الظاهرة المشينة وللضغط من أجل إصلاح النظام الجنائي، ولمعالجة الظروف المعيشية الصعبة للعديد من الشباب السود.

طاعون وركود وفوضى وغياب قيادي

أميركا تحترق. أميركا اليوم تعيش أسوأ لحظاتها هذا القرن. هجمات سبتمبر سنة 2001 شنها إرهابيون من الخارج. حرائق اليوم هي من صنع محلي، والغضب الساطع الذي يقف خلفها عمره 400 سنة، وهو عمر مؤسسة العبودية، وسياسات التمييز العنصري المنظم ضد الأميركيين من أصل افريقي ومضاعفاتها التي تطال مختلف أوجه حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والإسكانية وغيرها.

أميركا تحترق. ما نراه من جمر ورماد ودخان يحدث على خلفية أسوأ كارثة صحية تواجه البلاد منذ قرن. حتى الآن قضت جائحة كورونا على أكثر من 105,000 أميركي، وهو أعلى رقم لضحايا الجائحة في العالم، بينما وصل عدد الأميركيين المصابين بأعراض الفيروس إلى أكثر من 1.8 مليون أميركي. أكثرية ضحايا الجائحة هم من الأقليات وتحديدا الأميركيين من أصل أفريقي.

أميركا تحترق. ألسنة النار التي تلتهم الممتلكات العامة والخاصة تزيد من تفاقم أسوأ كارثة اقتصادية تعصف بالبلاد منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، بعد أن انضم إلى جيش العاطلين عن العمل 40 مليون أميركي خلال أقل من ثلاثة أشهر. 

في الأشهر الماضية برزت ظاهرة توزيع المواد الغذائية الإغاثية لعدد كبير من الأميركيين الذين وجدوا أنفسهم للمرة الأولى في حياتهم غير قادرين على أن يوفروا لأنفسم ولعائلاتهم الغذاء. صفوف طويلة من السيارات تنتظر لساعات طويلة ومهينة للحصول على صندوق يتضمن مواد غذائية أساسية ومعلبات وحليب وخبز. هذه الصفوف ذكرت الأميركيين المطلعين على تاريخ بلادهم بطوابير الفقراء والمحتاجين خلال ثلاثينيات القرن الماضي الذين كانوا يأمون "مطابخ الحساء" من أجل وجبة مجانية.

جميع المؤشرات تبين أن المستقبل المنظور للولايات المتحدة قاتم: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وصحيا.

الحقوق المكتوبة لم تحرر المستعبدين وتجعلهم مواطنين متساوين، خاصة وأن الوعود التي أعطيت للعبيد السابقين مثل توزيع الأراضي عليهم وتوفير الخدمات الأساسية مثل التعليم وغيرها لم تنفذ

أميركا تحترق. تضافر جائحة كورونا، مع الأزمة الاقتصادية الخانقة، والاضطرابات والتظاهرات الاحتجاجية ضد عنف الشرطة ضد الشباب السود، يكتسب خطورة غير معهودة، بسبب غياب قيادة أميركية مركزية حكيمة أو عقلانية يمكن أن تقود البلاد من الصحراء القاحلة التي تمر بها الآن إلى واحة واعدة في المستقبل، كما فعل الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت الذي أنقذ البلاد من كوارث طبيعية وأزمة اقتصادية قاتلة وحرب عالمية لا مثيل لوحشيتها. الرئيس ترامب صب الزيت على النيران. فقد وجه انتقادات غير مبررة لرئيس بلدية منيابوليس واتهمه بالضعف لأنه لم يقمع التظاهرات بالقوة، وتبجح بأنه أبلغ حاكم ولاية مينيسوتا بأنه مستعد لإرسال الجيش الأميركي إلى الولاية، على الرغم من وجود قانون فدرالي يمنع نشر القوات الأميركية المسلحة (باستثناء الحرس الوطني لحفظ الأمن الداخلي)، إلا بعد موافقة الكونغرس المسبقة. وكعادته لجأ ترامب إلى شبكة تويتر لنشر تهديداته ضد المتظاهرين الذين وصفهم بـ "قطاع الطرق" التي كان من بينها نبش عبارة عنصرية تعود إلى سنة 1967 أدلى بها قائد الشرطة في مدينة ميامي آنذاك وهي: "عندما يبدأ النهب، يبدأ إطلاق النار".  

شبكة تويتر اضطرت إلى وصف تغريدة ترامب بأنها تحرض على العنف. لاحقا ادعى ترامب أنه لم يكن يعلم بالأصل العنصري للعبارة، ولكن لم يصدقه أحد. وبعد وصول التظاهرات إلى حديقة لافاييت قبالة البيت الأبيض وبعد مناوشات عنيفة بين الشرطة السرية التي تحرس البيت الأبيض والمتظاهرين، أثنى ترامب على قسوة الشرطة السرية تجاه المتظاهرين وغرّد باعتزاز أنه لو اقترب المتظاهرون من السور الحديدي المحيط بالبيت الأبيض "سوف يتم استقبالهم من قبل الكلاب الوحشية، وأكثر الأسلحة خطورة". 

مرة أخرى نبش ترامب من حقبة النضال من أجل الحقوق المدنية في ستينيات القرن الماضي صورة الكلاب التي كانت فرق الشرطة في جنوب البلاد تستخدمها ضد المتظاهرين من سود وبيض الذين كانوا يطالبون بإلغاء الممارسات التمييزية ضد الأميركيين من أصل أفريقي. هذا هو رئيس الولايات المتحدة في هذه اللحظة التاريخية الحرجة.

الخطيئة الأصلية

ولدت الولايات  المتحدة بخطيئة أصلية لم تستطع حتى الآن محوها كليا. مؤسسة العبودية كانت القضية المحورية التي أخفق مؤسسو الجمهورية الأميركية في حلها قبل إعلان الاستقلال من بريطانيا. الخلافات بين ممثلي الولايات الثلاثة عشرة الأصلية حول مستقبل الرق كانت جذرية، وكان يمكن أن تقف عقبة بوجه الاستقلال لأن بعض الولايات الأساسية مثل فيرجينيا وغيرها من الولايات الجنوبية الزراعية، كانت تعتمد اقتصاديا على عمل المستعبدين لإنتاج القطن والتبغ. ولذلك ارتأى المؤسسون، تأجيل مواجهة هذه الخطيئة الأصلية بصدق إلى مرحلة لاحقة. 

وهكذا ولدت الجمهورية الأميركية بعد حرب تحرير من الاستعمار البريطاني ووفقا لإعلان استقلال يبدأ بجملة ثورية في تاريخ الفكر السياسي الغربي، وتعتبر أشهر وربما أجمل جملة في اللغة الإنكليزية: "نحن نرى أن هذه الحقائق بديهية، أن جميع البشر خلقوا متساوين، وأنهم وهبوا من خالقهم حقوقا غير قابلة للتصرف، وأن من بين هذه الحقوق حق الحياة والحرية والسعي وراء السعادة". 

كاتب هذه الكلمات هو توماس جيفرسون أحد أهم المؤسسين والرئيس الثالث للولايات المتحدة. جيفرسون كان مفكرا وسياسيا بالغ الذكاء والاطلاع، وذا ثقافة واسعة وكان شخصية معقدة وغنية بالتناقضات والمفارقات الصارخة. الرجل الذي أكد أن جميع البشر خلقوا متساوين، كان يملك مئات العبيد. منزله الجميل الذي صممه بنفسه في جنوب ولاية فيرجينيا والمعروف باسم Monticello وهي كلمة إيطالية تعني "الجبل الصغير" بناه عبيده من أشجار الجبل الصغير وصنعوا الطوب من ترابه. هذا التناقض الذي جسّده جيفرسون يفسر الهوة بين المثالية الأميركية الموجودة في إعلان الاستقلال ونص الدستور وغيره من الوثائق المحورية للولايات المتحدة، وبين التجربة التاريخية لأميركا، وخاصة آفة العبودية. 

متظاهرون في فيرغسون على خلفية مقتل جورج فلويد على يد الشرطة، يرفعون شعار "لا عدل... لا سلام"

ثمن الإخفاق في مواجهة الخطيئة الأصلية لحظة ولادة الجمهورية أدخل البلاد في 1861 في أتون حرب أهلية رهيبة أدت إلى مقتل 750 ألف جندي، وتدمير مدن بأكملها. ولا تزال الولايات المتحدة حتى هذه اللحظة تعيش في ظل أهم وأبشع وأوجع تجربة في تاريخها، لأن الحرب لم تحل جميع الأسباب التي أدت إليها.

تم تحرير الرق رسميا وفقا للتعديل الثالث عشر للدستور الذي أقر في 1865. التعديل الرابع عشر للدستور منح الجنسية الأميركية لكل شخص ولد في الولايات المتحدة، وضمن التعديل الخامس عشر حق التصويت لكل أميركي بغض النظر عن خلفيته العرقية. 

ولكن هذه الحقوق المكتوبة لم تحرر المستعبدين وتجعلهم مواطنين متساوين، خاصة وأن الوعود التي أعطيت للعبيد السابقين مثل توزيع الأراضي عليهم وتوفير الخدمات الأساسية مثل التعليم وغيرها لم تنفذ. ومع ذلك شهدت السنوات القليلة التي تلت الحرب، والتي سميت بحقبة إعادة البناء في ظل الحزب الجمهوري (حزب الرئيسين أبراهام لينكولن ويوليسيس غرانت) انتخاب ممثلين عن السود لمجلسي النواب والشيوخ، وتغييرات جدية في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للسود في الولايات الجنوبية من بينها حماية حقوقهم المدنية من قبل الحكومة الفدرالية.

لا تزال أميركا تتأرجح حتى اليوم بين مثاليتها وخطيئتها الأصلية

ولكن بعد انتهاء هذه الحقبة مع نهاية ولايتي الرئيس يوليسيس غرانت في 1877، عاد أسياد العهد البائد من الديموقراطيين الذين يؤمنون بتفوق العنصر الأبيض إلى مراكز السلطة في الولايات الجنوبية، أحيانا خلال انتخابات كان المتطرفون خلالها يقومون بترهيب السود ومنعهم من التصويت. وبعد انتهاء حقبة الرئيس غرانت في 1877 انسحبت القوات الفدرالية من الجنوب، وسيطر العنصريون البيض على المجالس التشريعية لهذه الولايات وبدأوا بتشريع القوانين التمييزية ضد المواطنين السود، والتي فصلت الأميركيين السود عن البيض في مختلف الحقول والخدمات.

هذه القوانين التمييزية ضد السود بقيت سارية المفعول حتى ستينيات القرن الماضي، حين ألغاها الرئيس ليندون جونسون. في 1865، أسس عدد من الجنود الجنوبيين السابقين تنظيما عنصريا سريا سموه كوكلاكس كلان، سرعان ما حولوه إلى ميليشيا عسكرية مارست الإرهاب والعنف ضد السود في الولايات الجنوبية لعقود طويلة. 

أبشع أنواع الإرهاب كانت عمليات شنق وحرق السود الذين كانوا يتهمون دون أي أدلة بارتكاب جرائم قتل أو اغتصاب. وكانت جرائم الشنق تتم على أيدي مجموعات من العنصريين البيض، الذين كانوا يعلقون رجلا أو أكثر على أغصان أشجار كبيرة، وأحيانا كثيرة يحرقون جثثهم في مناسبات ترفيهية كان يشارك فيها السكان المحليون. 

ووفقا لمنظمات الحقوق المدنية تم شنق 4,084 أميركي من أصل أفريقي ظلما بين سنتي 1877 و1950 في الولايات الجنوبية. هذا التقليد الرهيب حولته مغنية البلوز والجاز الرائعة بيلي هوليداي إلى ترنيمة شبه مقدسة لتخليد معاناة وعذاب السود بعنوان "الثمار الغريبة" غنت فيها عن "الأشجار الجنوبية التي تحمل الثمار الغريبة، والدماء على أوراقها، والدماء على جذورها، حيث الأجساد السوداء تتأرجح في النسيم الجنوبي.

ولا تزال أميركا تتأرجح حتى اليوم بين مثاليتها وخطيئتها الأصلية.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.