مؤسس تنظيم "الإخوان المسلمين" حسن البنا
مؤسس تنظيم "الإخوان المسلمين" حسن البنا

لا شك أن أحد نقاط الخلل الجوهري التي تعتري خطاب جماعات الإسلام السياسي وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين يتمثل في الاعتقاد بأن فكر الجماعة يُمثل مقصد الدين، وهو الأمر الذي تترتب عليه الأخطاء الكثيرة التي تصاحب سلوك أهل ذلك التيار وتؤدي إلى فشلهم المؤكد.

هذه النقطة الهامة أشار إليها المفكر الراحل، نصر حامد أبوزيد، في كتابه القيم "نقد الخطاب الديني" ضمن آليات ذلك الخطاب وأطلق عليها مسمى "التوحيد بين الفكر والدين" حيث يتم من خلالها إلغاء المسافة الضرورية بين "الذات والموضوع" وبالتالي يُصبح تأويل الجماعة للنصوص الدينية متطابقا مع الدين نفسه.

يؤدي هذا النوع من الخطاب إلى نتائج كارثية من بينها أن أصحابه لا يحتملون أي نوع من التأويل المختلف للقضايا الدينية، باعتبار أن ذلك يمثل خروجا عن "صحيح الدين" الذي تمثله الجماعة والتي تتحول في نهاية الأمر إلى المتحدث الحصري باسم الله.

للتدليل على ذلك، أقتطف فقرة من رسالة كتبها المراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين في السودان، علي جاويش، يقول فيها إن "دعوة الإخوان المسلمين التى أسسها الأستاذ حسن البنا.. منذ أكثر من ثمانين عاماً فى هذا العصر هي امتداد وسير على منهج الدعوة التي جاء بها الرسول.. وبما أوحاه الله.. إليه لإنقاذ البشرية من النار وإدخالهم الجنة وإصلاح أمرهم بها دنيا وآخرة. فقال له "فاستمسك بالذي أوحى إليك إنك على صراط مستقيم" (سورة الزخرف 43).

وأضاف: "فالدعوة التى أسسها الإمام حسن البنا.. هي ذات الدعوة التي أتى بها النبي.. لاتختلف عنها إلا بقدر ما يبذل القائمون بها من جهد وما يحققون من عمل صالح".

قد يندهش البعض ويستغرب لهذه الجرأة الشديدة من الأستاذ جاويش في وصف دعوة البنا بأنها "هي ذات الدعوة التي أتى بها النبي.."، ولكن هذا الاستغراب سيزول سريعا إذا ما علموا أن جاويش لم يبتدع شيئاً وإنما هو يسير على خطى المرشد المؤسس حسن البنا، الذي قال في رسالة المؤتمر الخامس إن "على كل مسلم أن يعتقد أن هذا المنهج "أي منهج الإخوان المسلمين" كله من الإسلام, وأن كل نقص منه نقص من الفكرة الإسلامية الصحيحة". 

نحن هنا إزاء فكرة في غاية الخطورة تقول لجميع المسلمين إن أي نقص في فكر جماعة الإخوان المسلمين إنما هو نقص من الفكرة الإسلامية الصحيحة، وهذا يستتبع أن ما عداها من الأفكار هو الخطأ بعينه ومن هنا تتولد جميع الممارسات الخاطئة المتمثلة في الإقصاء والعنف والتمكين، حيث تتحول الجماعة إلى "جماعة المسلمين" وليس "جماعة من المسلمين" وحيث يتحول الأخوة في الجماعة إلى عُصبة ربانية تمتلك "الحق المطلق" بينما يتحول أي مسلم آخر إلى درجة أدنى منهم.

ليس هذا فحسب، بل أن البنا يُعرِّف طبيعة الجماعة في رسالة "الإخوان تحت راية القرآن" بالقول: "ولكننا أيها الناس: فكرة وعقيدة، ونظام ومنهاج، لا يحدده موضع ولا يقيده جنس، ولا يقف دونه حاجز جغرافي، ولا ينتهي بأمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ذلك لأنه نظام رب العالمين ومنهاج رسوله الأمين. نحن أيها الناس ـ ولا فخر ـ أصحاب رسول الله، وحملة رايته من بعده، ورافعو لوائه كما رفعوه، وناشرو لوائه كما نشروه، وحافظو قرآنه كما حفظوه، والمبشرون بدعوته كما بشروا، ورحمة الله للعالمين ولتعلمن نبأَه بعد حين .. فمن تبعنا الآن فقد فاز بالسبق، ومن تقاعد عنا من المخلصين اليوم فسيلحق بنا غدا، وللسابق عليه الفضل. ومن رغب عن دعوتنا زهادة أو سخرية بها أو استصغارا لها أو يائساً من انتصارها، فستثبت له الأيام عظيم خطأه، وسيقذف الله بحقنا على باطله فيدمغه فإذا هو زاهق فإلينا أيها المؤمنون العاملون، والمجاهدون المخلصون، فهنا الطريق السوي، والصراط المستقيم، ولا توزعوا القوى والجهود"، وأَن "هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون (الأنعام:153)". 
هاهو المرشد المؤسس يقول عن الإخوان إنهم أصحاب رسول الله، ويقول عن دعوته إنها الطريق السوي والصراط المستقيم ونظامها هو "نظام رب العالمين"، وبالتالي فهو يُطابق بينها وبين دعوة الرسول الكريم، وهنا يكمن المأزق الحقيقي لأن كلامه هذا يعني أن مخالفة نهج الجماعة تعني مخالفة الإسلام الصحيح!

هذا التعريف لطبيعة الجماعة من قبل مؤسسها يمنحها الصلاحية الكاملة  لاحتكار المفهوم الصحيح للدين وبالتالي تكون قادرة على إدانة وتجريم وطرد كل من يخالفها، ليس من أسوار الجماعة فحسب، بل من إطار الإسلام نفسه، وهو من ناحية أخرى يجعل الأعضاء في حل من احترام أي قوانين أو دساتير أو نظم أو مبادئ لا تتسق مع أهداف الجماعة.

أما المرشد العام السابع للجماعة في مصر، محمد مهدي عاكف، فقد عبَّر عن تطابق فكر الإخوان مع الدين في حوار نشرته صفحة الإخوان على الشبكة العالمية "إخوان أونلاين" في أبريل 2006 بالقول: "وليس هناك أحق من أن يقول الحق كما أنزل على قلب محمد.. إلا الاخوان المسلمون"!

ليس من المستغرب إذن أن يخرج من صلب هذا النوع من الاعتقاد الإقصائي والفكر الاستعلائي شخص يقول إن المسلمين جميعا يعيشون في جاهلية، ويصل بفكر المرشد المؤسس لنهاياته المنطقية: التكفير والقتل والإرهاب، فهاهو سيد قطب، مفكر الإخوان المسلمين الأثير، يقول في "معالم في الطريق": "نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية: تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم". 

وفي تفسيره "في ظلال القرآن"، وهو التفسير المحبب للإخوان المسلمين، يصدر قطب بإسم الإسلام حكمه النهائي على المجتمعات الإسلامية المعاصرة ويقول إن: "موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية يتحدد في عبارة واحدة: إنه يرفض الإعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها". 

في اعترافات نادرة، قال عضو الجماعة في السودان، مبارك الكودة، "في مسيرتي الطويلة وأنا في حركة الإخوان المسلمين، أعترف بأني أخطأت في مفاهيم كثيرة منها مفهوم الجماعة في الإسلام ومفهوم الإمارة و الطاعة لأولي الأمر، وأخطأت كذلك في مفهوم الإعتراف بالآخر وإنسانيته وحقوقه، وهذه الأخطاء المفاهيمية شكلت تكويني العقلي مما جعلني اخطئ التقدير فيما هو ظني الدلالة".

إن الخطأ الذي يعتري مفاهيم الجماعة في الإسلام والإمارة والطاعة لأولي الأمر هو في واقع الأمر خطأ متولد عن الخلل الرئيسي في الخطاب الذي يُطابق بين دعوة الإخوان المسلمين والإسلام، وهو خطأ أساسي لن تكون محصلته الأخيرة سوى تجذير ثقافة الاستبداد والحرب وترسيخ مفاهيم الإذعان والانقياد الأعمى وقمع الاختلاف والتنوع.

غني عن القول إن ذلك الخطاب على المستوى الأخلاقي - كما يقول علي حرب - له وظيفة سلطوية متمثلة في الحفاظ على وحدانية المرجعية من خلال احتكار المشروعية، فهو خطاب لا يعطي الغير أي مشروعية أو مصداقية لأن من شأن ذلك زعزعة سلطته العقائدية، أي التشكيك بيقينية معتقده، وهو الأمر الذي يفقده مبرر دعواه أو فلنقل ادعاؤه بأنه الصراط المستقيم ونظام رب العالمين كما يقول المرشد المؤسس.

إن المأزق الحقيقي الذي تعاني منه جماعة الإخوان المسلمين وتيارات الإسلام السياسي على وجه العموم، هو مأزق فكري يتعلق بالدرجة الأولى بطبيعة خطابها الذي يُطابق بين دعوتها والمقاصد الإلهية ولا يرى مسافة فاصلة بين الجماعة والإسلام ولا يسمح بأي فهم أو تأويل للنصوص الدينية سوى تأويلها الخاص.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.