جلسة محاكمة لأحد أعضاء جماعة أنصار المهدي المتطرفة
جلسة محاكمة لأحد أعضاء جماعة أنصار المهدي المتطرفة

إيلان بيرمان/

على مدار العقد الماضي، وضعت جهود المغرب المكثفة للترويج لنسختها من الإسلام المتسامح كعلاج لتطرف داعش وغيره من الجماعات الإسلامية المتطرفة، المملكة في الخطوط الأمامية لـ"حرب الأفكار" في العالم الإسلامي. ومع ذلك، تبقى الجهود المحلية التي يبذلها البلد للتخفيف من وطأة مشكلته الإسلامية الداخلية شبه مجهولة.

حتى منتصف عام 2017، قدرت مجموعة الأزمات الدولية أن أكثر من 1500 مواطن مغربي غادروا البلاد للانضمام إلى الجهاد في العراق وسوريا. لجهود المغرب ضد التطرف أسباب عديدة، لكن هدفها واضحة؛ فقد أضحت قضية "العائدين" الإسلاميين مصدر قلق كبير للمملكة، ودفعت البلاد إلى تبني استراتيجية مزدوجة تركز على العزلة وإعادة التأهيل.

يدرك المسؤولون في الرباط أن السجن ليس حلا دائما لمشكلة التطرف الإسلامي

​​​جرمت المملكة رسميا تجنيد المقاتلين الأجانب في عام 2015، طبقا للمبادئ التي أقرتها الأمم المتحدة. وبموجب القانون المغربي، أي شخص يغادر البلاد للسفر إلى العراق وسوريا للانضمام إلى الدولة الإسلامية يعتبر مجرما، ويُحتجز عند عودته. ظاهريا، تنطبق هذه العقوبة أيضا على الإسلاميين الذين ينضمون إلى فصائل متطرفة أخرى (مثل القاعدة أو بوكو حرام في نيجيريا). وتتراوح مدة السجن لمرتكبي هذه الانتهاكات من خمس إلى 18 سنة، تبعا للفعل الذي ترتكبه المجموعة المتطرفة المعنية.

حتى اليوم، لم يعتقل المغرب سوى 200 من هؤلاء العائدين، وسجنهم جميعهم. ومع ذلك، تتوقع السلطات زيادة عدد المتطرفين العائدين في الأسابيع والأشهر المقبلة، بعد أن انهارت خلافة الدولة الإسلامية في الشرق الأوسط.

للتعامل مع هذا التدفق، أنشأ المغرب نظام سجون مواز يهدف إلى فصل المتطرفين الإسلاميين عن المجرمين العاديين، ومنع عدوى أفكارهم الراديكالية من الانتقال للآخرين. هناك الآن ما بين 16 و17 سجنا داخل المملكة، يتم تصنيف السجناء المحتجزين داخلها في ثلاث فئات. المتشددون الدينيون، وممولو الإرهاب أو المتورطون في التعبئة الأيديولوجية يعتبرون الأكثر خطورة بين الفئات الثلاث. ويعتبر المتطرفون الإسلاميون الذين يظهرون علامات "تصالح" مع الإسلام المعتدل أقل خطورة، بينما ينظر إلى الآخرين (غير المقاتلين وغير العقائديين) على أنهم غير خطرين نسبيا. وتختلف المعاملة التي يتلقاه هؤلاء النزلاء باختلاف تصنيفهم. إجمالا، يقدر عدد المسجونين بموجب النظام الجزائي الإسلامي المغربي حاليا بما يتراوح بين 800 و820 سجينا.

لكن المسؤولين في الرباط يدركون أن السجن ليس حلا دائما لمشكلة التطرف الإسلامي في البلاد. لذلك، حولت المملكة تركيزها إلى تفكيك الخطاب المتطرف لدى الإسلاميين القابلين لإعادة التأهيل.

والمحصلة عبارة عن برنامج جديد يطلق عليه اسم "مصالحة". يدير البرنامج المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج (DGAPR)، وهو مصمم لإعادة تأهيل المتطرفين الدينيين، وله ثلاثة أهداف: أن يتقبل السجين المسؤولية عن أفعاله الخاصة، ويتصالح مع العقيدة الإسلامية، ومع المجتمع ككل.

يستغرق برامج "مصالحة" شهرين وعند الانتهاء، يتم منح العفو عن غالبية المشاركين وتخفيف عقوباتهم

​​ويتحقق ذلك من خلال المحاضرات والخطاب الأيديولوجي الذي يفضحزيف الأفكار الإسلامية المتطرفة التي يتم تنفيذها بالتعاون مع الرابطة المحمدية للعلماء، أعلى هيئة دينية في البلاد)، من خلال التدريب العملي والنظري المصمم لتزودي السجناء بالمهارات العملية والفكرية، من خلال تعزيز مفاهيم حقوق الإنسان.

يستغرق برامج "مصالحة" شهرين، يتم خلالهما فصل السجناء المشاركين عن السجناء العاديين في السجون. وعند الانتهاء، يتم منح العفو عن غالبية المشاركين (أكثر من 50٪ من الخريجين حتى الآن)، وتخفيف عقوباتهم. المشاركة في البرنامج طوعية تماما ويجب أن يبادر السجناء أنفسهم لطلب الانخراط فيها.

على كل حال، لا يزال برنامج "مصالحة" تجريبيا. إذ تم إكمال دورتين فقط حتى الآن، والثالثة لا تزال جارية. خرَّجت المبادرة 75 خريجا فقط، وهناك 37 نزيلا يشاركون فيها حاليا. ومع ذلك، رغم هذه العينة الصغير، يؤكد المسؤولون المغربيون أن النتائج كانت مشجعة للغاية؛ فالبرنامج يعمل منذ ثلاث سنوات، وحتى الآن لم يعد أي من الخريجين إلى صفوف المتطرفين.

هل ينجح منهج المغرب في التعامل مع التهديد الذي يشكله عائدون من داعش؟ الوقت وحده كفيل بإثبات ذلك من عدمه. لكن النجاحات التي حققتها المملكة في هذا المجال حتى الآن تقدم بعض الدروس القيمة للدول الإقليمية الأخرى التي تعاني من نفس المشكلة ـ أو ستعاني منها قريبا.

اقرأ للكاتب أيضا: المقاتلون الأجانب مع 'داعش': تهديد يعود إلى الواجهة

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.