"كيف الخلاص من وظيفة اعتبرتها في البداية ضمانة لي مدى الحياة، وإذ بي أجدها كحبل ملتف حول عنقي يخنقني في اليوم مئات المرات"، كلمات قالها الرقيب أول في قوى الأمن الداخلي في لبنان، علي. ح، لموقع "الحرة"، مختصرا معاناة عدد كبير من زملائه بسبب تراجع قيمة رواتبهم بشكل قياسي.
ويشهد لبنان أزمة اقتصادية حادة منذ صيف 2019، صنفها البنك الدولي بين الأسوأ في العالم منذ عام 1850، إذ فقدت الليرة اللبنانية حوالي 90 في المئة من قيمتها مقابل الدولار الأميركي، الأمر الذي أدى إلى اتساع رقعة الفقر، حيث خلص آخر تقييم أجرته "الإسكوا" إلى أن "معدل الفقر في لبنان تضاعف من 42 في المئة في عام 2019 إلى 82 في المئة من إجمالي السكان في عام 2021".
وفاقم انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس 2020 من حدة الأزمة، إضافة إلى إجراءات مواجهة فيروس كورونا. وبعدما كان اللبنانيون ينتظرون من حكومة الرئيس نجيب ميقاتي أن تضع حلولاً على سكة الخلاص، صدموا أن الأوضاع تتراجع أكثر وسعر صرف الدولار يرتفع حتى بلغ حدوداً لم يشهدها من قبل، حيث تخطى قبل أيام عتبة الـ25 ألف ليرة.
الوضع مأساوي ولم يعد يحتمل، يوماً بعد يوم يزيد غرق اللبنانيين في الفقر، وكما قال علي: "حتى كفاف يوم عائلتي لا يمكنني تأمينه مع تراجع قيمة راتبي من 1200 دولار إلى 72 دولار، أي ما يعادل مليون و800 ألف ليرة، تكفي بدل فاتورة مولد الكهرباء، أجبرت على إيقافه لنمضي الليل وعائلتي على ضوء الشمعة إن تمكنت من شرائها".
ويشرح، بغصة لم تفارق حديثه، "نسينا مذاق اللحم والدجاج بسبب سعرهما المرتفع، وهذا يشعرني بالخجل، فكيف لي أن أفي بقسمي حين انضممت إلى مؤسسة قوى الأمن الداخلي وتدرجت في صفوفها حتى أصبحت رقيباً أولاً، في حين لا أستطيع شراء البطاطا والبرغل والأرز، وهي أطعمة الفقير سابقا، بينما اليوم أصبحت ترفا بكل ما للكلمة من معنى".
لم يعد علي يبالي، على حد قوله، "لا بالوطن ولا بما يدور فيه، همي الأول ألا تنام والدتي وشقيقي من دون طعام، ولهذا أرى أنه حان الوقت لإقرار قانون يسمح بتسريحنا من وظيفتنا، لا قانونا يمدد مهلة خدمتنا كالذي تقدم به النائب بلال عبد الله، فبدلاً من أن ينظر إلى حالنا، اقترح ما قد يفيد بعض المنتفعين من المؤسسة".
وأضاف "أنا أشدد على ضرورة عدم بقائنا رهينة توقيع يحول دون فك أسرنا، لأنني حقا أشعر أني في سجن كبير، حيث لا يمكنني السفر ولا العمل في أي مهنة تؤمن أدنى مقومات العيش الكريم لي ولعائلتي".
وتعجز المؤسسات الأمنية والعسكرية اليوم عن تأمين أبسط حقوق عناصرها، كالطبابة مثلا، على الرغم من محافظتها لسنوات على تقديمها لهم حتى خلال الحرب الأهلية.
وفي هذا السياق، قال المعاون في قوى الأمن، سمير.م، لموقع الحرة: "بعدما كنا نعتبر أن المؤسسة الأمنية تحمينا من الموت على أبواب المستشفيات أصبحنا اليوم نواجه هذه المشكلة، فعدد كبير من المستشفيات يرفض استقبالنا وإن حصل ذلك، علينا أن ندفع بدل فاتورة الاستشفاء".
وأكد سمير أن "الدولة تحاسب على سعر صرف 3900 ليرة، في حين يتجاوز سعر صرف الدولار في السوق السوداء الـ24 ألف ليرة، أما الأدوية فأصبح سعر بعضها يعادل نصف راتبنا".
في الوقت الذي لم تسمح فيه الظروف المادية لعلي بالارتباط، لدى سمير أربعة أولاد، وقال: "وحده الله يعلم كيف أؤمن قوت يومهم، فكرت كثيراً بالفرار من الخدمة والهرب خارج البلاد، لكن أخشى من التبعات في حال أقدمت على ذلك".
اقتراح قانوني يعاكس "الأغلبية"
حتى الآن، فرّ من صفوف القوى الأمنية، بحسب ما أعلنه وزير الداخلية اللبناني، بسام مولوي، 243 عنصراً وأربعة ضباط، وفي الوقت الذي ينتظر فيه عدد لا بأس به من الأفراد والرتباء تسريحهم.
وتقدم النائب، بلال عبدالله، باسم "اللقاء الديمقراطي" بزعامة وليد جنبلاط، باقتراح قانون يتعلق بتمديد مدة تسريح الرتباء والأفراد.
وعن الأسباب الموجبة، قال عبدالله: "لما كان قانون الدفاع الوطني قد صدر بالمرسوم الاشتراعي رقم 102 تاريخ 16 /9/ 1983 ولما كانت المادة 57 والتي تتناول أحكام التسريح من الخدمة لم يطرأ عليها أي تعديل منذ ذلك الزمن، وتنص المادة أيضا على أن يسرح الرتباء عند بلوغهم سن الـ48 سنة، كما تنص على تسريح الأفراد عند بلوغهم الـ45 سنة، وبما أن نص المادة يعود الى ما يقارب الـ 40 سنة، حصلت خلالها تطورات عديدة على المتوسط العام للعمر".
وأضاف "ولما كان الوضع القائم حاليا في البلاد لا يسمح بتطويع عناصر لصالح المؤسسة العسكرية يقابله تسريح العسكريين الذين بلغوا السن القانونية ناهيك عن العسكريين الذين يتقدمون بطلب استقالاتهم، ولما كان الاتجاه التشريعي منذ العام 2019 قد انتهى إلى تمديد سنوات الخدمة وقد ظهر ذلك في المادة 90 من القانون 144 الصادر في العام 2019 من خلال رفع عدد سنوات الخدمة الفعلية التي تتيح الحق بالتقاعد من 18 سنة إلى 23 بالنسبة للرتباء والأفراد، وعليه تقدمنا بهذا الاقتراح آملين من المجلس النيابي الكريم مناقشته وإقراره".
تمديد اختياري لا إجباري
وتعليقاً على ما تقدم به، قال النائب عبد الله، في حديث لموقع الحرة، إن "اقتراح القانون هو لتمديد خدمة العناصر والرتباء الأمنيين اختيارياً وليس اجبارياً، وذلك بناء على طلب بعضهم مني، لاسيما أنه لا يوجد توظيفات في الوقت الحالي وقسم لا بأس به من الأجهزة الأمنية والعسكرية تحتاجهم".
وعن انخفاض قيمة رواتب العناصر الأمنية بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار إلى حدود خيالية، أوضح: "هي أزمة عامة في البلد، أزمة المداخيل وغلاء الأسعار وغيرهما".
وعن إمكانية اقتراح قانون لرفع رواتب القوى الأمنية والعسكرية، أكد عبد الله أن "القوانين الشعبوية التي يمكن اقتراحها كثيرة لكن المهم أن نجد مداخيل، فهل نتجه إلى طبع المزيد من العملة المحلية؟ فالدفع على طاقات من دون أي رؤية اقتصادية وتحريك الاقتصاد ورفع امكانات البلد المالية يعني أننا ندفع في مكان ونأخذهم من مكان آخر".
اقتراح يضر بالمؤسسة العسكرية
أما قائد الدرك الأسبق، العميد صلاح جبران، فقد اعتبر أن "اقتراح القانون يخدم عسكراً يرغبون بالبقاء في السلك بعد إيقاف التطوع، وهو يعاكس ما تطمح إليه الأغلبية التي تتوق إلى تسريحها، كون أي عمل خارج المؤسسة العسكرية مردوده أكبر من الراتب الذي يتقاضاه الأمني في ظل الظروف الحالية".
وأردف قائلا لموقع الحرة: "حتى هذا الاقتراح يمكن تعديله من خلال ذكر أنه يسمح التطوّع في المؤسسات العسكرية بنسبة تعادل نسبة الذين سيتقاعدون والمتوفين والمستقيلين والمطرودين والمنتهية عقود تعاقدهم"، لكن هذا الاقتراح سيجعل المؤسسة العسكرية هرمة، وهذا الأمر ضد مصلحتها، فالفرد في سن الـ 47 يكون قد استنفذ طاقاته، والعسكري الذي يرفض تسريحه لا يعود منتجاً حيث سيخدم مرغماً".
ويمكن تأجيل التسريح للمتطوع ولو بلغ السن القانونية، بحسب المادة 55، في الحالات التالية، أولا، إذا كان في وضع اعتلال لم يبت به، وفي هذه الحالة يبقى بصفته السابقة حتى صدور مقررات اللجنة الصحية. ثانيا، بناء على قرار وزير الدفاع الوطني المبني على اقتراح قائد الجيش في حالات الحرب او اعلان حالة الطوارئ او اثناء تكليف الجيش بالمحافظة على الامن. والجيش الآن برأي العميد جبران "مكلف بالحفاظ على الأمن ويمكنه تأجيل التسريح وليس من الضروري وضع سن معين".
المشكلة الكبرى
"وضع أفراد المؤسسة العسكرية مزرٍ ومأساوي"، وفق العميد جبران الذي رأى أن "وضع الجيش أفضل حالاً من القوى الأمنية بفضل الاتصالات التي قام بها قائده والتي أسفرت عن مساعدات طبية ومادية، على عكس القوى الأمنية حيث بات سعر الدواء الذي يحتاجه رجل الأمن يساوي راتبه وأكثر، عدا عن أن جميع المستشفيات المتعاقدة معها قوى الأمن ترفض استقبال رجال قوى الأمن للمعالجة ولا يوجد لديهم مستشفى على غرار الجيش اللبناني".
ويضيف "من هنا نشهد حالة تذمر كبيرة، والوضع كما أراه غير سليم وإذا لم يتم تداركه سيؤدي إلى مضاعفات كبيرة، فالحالة تسوء يوماً بعد يوم والمسؤولون غير مكترثين لهذا الوضع".
وعما تردد من طلب المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي من جميع عناصرها تسليم جوازات سفرهم، قال العميد المتقاعد: "أمر طبيعي، فأي عسكري يدخل السلك يسلم جواز سفره، وإذا أراد السفر عليه طلب إذن خاص".
أما الطلب من بعضهم تسليم سلاحهم، فهو يعود كما قال إلى "حالات معينة قام بها عسكر ببيع سلاحه وادعاء فقدانه، من هنا قد يطلب من العسكري الإداري تسليمه، لا سيما وأن ليس لديه مهمات أمنية".
الوضع الأمني في لبنان هش ويزيد خطورة مع الأيام في ظل استحقاقات عدة قادمة منها الانتخابات النيابية في حين العسكر في وضع يرثى له، والمشكلة الكبرى، كما يرى العميد جبران.
ويشير إلى أن "المسؤولين لا يعيرون ذلك أهمية، يوجهون القوى الأمنية المولجة بتأمين أمن المواطن إلى المخالفات الإدارية، إذ أن 90 في المئة من عمل العسكر في الوقت الحالي يقتصر على التبليغات ومتابعة مخالفات البناء، الأولى من صلاحية المباشرين العدليين والثانية من اختصاص البلديات التي تمنح الترخيص، في وقت ترتفع فيه نسبة السرقات وجرائم القتل والسلاح المتفلت منتشر في كل مكان".
"لكن رغم كل الظروف الاقتصادية الصعبة التي انعكست بشكل كبير على العناصر الأمنية والعسكرية تبقى خدمة بلدهم فوق كل اعتبار"، بحسب ما قاله مصدر أمني لموقع "الحرة"، "فالقضية تتعلق بالأمن القومي والانتماء للوطن وواجبنا مساعدة أهلنا وحفظ الأمن، لاسيما وأن المؤسسات الأمنية بحاجة لعناصر مع عدم فتح باب التطوع منذ سنوات في وقت يتقاعد سنوياً بين 500 إلى 700 عنصر".
وشدد المصدر، الذي طلب عدم الكشف عن هويته، على أن "القيادات الأمنية تسعى جاهدة لمحاولة سد الثغرات ومعالجة المشاكل الاجتماعية والطبية والاقتصادية".
وعن اقتراح قانون تمديد التسريح، علّق قائلا: "عند إقراره سنصبح ملزمين بتطبيقه".
الوضع القانوني للفار من خدمته
"دفع الوضع الاقتصادي الصعب ومنْع العسكريين في الأسلاك الأمنية والعسكرية من العمل خارج مؤسستهم في وقت ترفض فيه طلبات تسريحهم ومنحهم مأذونيات للسفر، إلى شعورهم أنهم تحت الاقامة الجبرية" بحسب ما قالته المحامية، ندين عراجي، لموقع "الحرة".
وأضافت "حدد الفصل الخامس من قانون رقم 17 من قانون تنظيم قوى الأمن حالات تسريح الرتباء والأفراد حكما بقرار من قائد الوحدة عند بلوغهم حدود السن القانونية أو اختيارياً عند إكمالهم مدة خدمتهم".
وفي رد على سؤال حول الوضع القانوني للفار من خدمته، أجابت "بحسب القانون رقم 17 لتنظيم قوى الأمن الداخلي، يحول إلى المحكمة العسكرية، ويكون أمام عقوبة تتراوح بين شهر وشهرين، قبل تحويله إلى المجلس التأديبي، حيث مصيره الطرد من المؤسسة، لكن بسبب الظروف التي يمر بها لبنان يقتصر الأمر في هذه الأيام على سجن العسكري الفار وكسر رتبته قبل إعادته إلى وظيفته".
كذلك أشارت عراجي إلى المادة 90 من قانون العقوبات العسكري الذي ينص على أن "كل شخص ارتكب جريمة التخلف المبينة في قانون التجنيد يعاقب في زمن السلم بالسجن من شهر إلى سنة، وفي زمن الحرب بالسجن من سنتين إلى خمس سنوات. وإذا كان الفار ضابطا فإنه يعاقب فوق ذلك بالعزل".
وتضيف "في حين نصت المادة 92 يعد فارا إلى خارج البلاد في زمن السلم كل عسكري يجتاز الحدود اللبنانية بدون إذن، أو يترك القطعة (السلاح) التابع لها ويلتحق ببلاد أجنبية، ويعاقب العسكري الفار إلى خارج البلاد بالسجن من سنتين إلى خمس سنوات، وإذا كان ضابطا، فإنه يعاقب بالاعتقال المؤقت، وإذا منح الأسباب التخفيفية وعوقب بالسجن فيقضى عليه فوق ذلك بعقوبة العزل".