Iraqi Prime Minister Mustafa al-Kadhimi wears a protective mask, following the outbreak of coronavirus disease (COVID-19) as he…
كان العاشر من مايو الفائت أول إجابة لمصطفى الكاظمي على أسئلة كثيرة رافقت تكليفه

ما بين تكليفه تشكيل الحكومة واستكمال تأليف حكومته، كانت هواجس العراقيين معلقة ما بين قدرة مصطفى الكاظمي على فرض التغيير والحاجة إلى أدوات غير متوفرة لا في مؤسسات الدولة ولا بين يديه. وكان التساؤل المشروع لحظة تسلمه: كيف يمكن لشخصية جاءت من خارج الطبقة السياسية وغير مدعومة بعصب مذهبية أو حزبية أو تقف خلفها كتلة برلمانية، مواجهة منظومة سياسية مسلحة سيطرت على الدولة ونهبت ثرواتها؟

كانت لحظة الكاظمي مُرَكبة ومُربِكة؛ مُرَكبة في فهم اختياره، ومُربِكة في معرفة أهدافه. وساعدت شخصيته شبه الغامضة المتأثرة بالمنصب الذي شغله في جهاز الاستخبارات في زيادة الحيرة لدى العراقيين الذين أربكهم الكاظمي في أسابيعه الأولى، حيث كان يمرر خلالها رسائل بعدة اتجاهات مطمئنة للبعض ومثيرة لحيرة البعض، حتى أنها أثارت حفيظة شباب الأول من تشرين الذين راهنوا عليه وكادوا أن يقتربوا من مخاصمته.

الدولة في العراق بالرغم من ضعفها إلا أنها حاضرة، ولكنها كانت تحتاج إلى من يبادر من أجل إعادة فرض سيادتها

قبل حلول 25 يونيو، الذي أسست أحداثه لمرحلة جديدة في مسيرة الحكومة العراقية ورئيسها، كان العاشر من مايو الفائت أول إجابة لمصطفى الكاظمي على أسئلة كثيرة رافقت تكليفه. في ذلك التاريخ كشف الكاظمي للجميع أن العراق يمتلك عصا غليظة، لا تساوم في حساباتها على ثوابت الدولة ومؤسساتها وهيبتها، وأنه سيستند عليها ويركن إليها عندما تحين لحظة الحقيقة. في 10 مايو أعاد مصطفى الكاظمي الفريق الركن عبدالوهاب الساعدي إلى الخدمة وكلفة رئاسة الجهاز الأقوى عسكريا والأكثر حرفية وشعبية عند العراقيين، فخطى حينها خطوته الأولى نحو إظهار أدوات قوة الدولة.

الدولة في العراق بالرغم من ضعفها إلا أنها حاضرة، ولكنها كانت تحتاج إلى من يبادر من أجل إعادة فرض سيادتها. وما جرى ليل الخميس وفجر الجمعة وضع الجميع أمام امتحان صعب، فالحكومة ورئيسها والقوات المسلحة أمام مفرق طرق؛ التراجع يمثل نهايتهم، والتمسك بموقفهم يأخذهم إلى مواجهة لم تكتمل شروطها. 

في المقابل، كان الحشد وفصائل الميليشيات التابعة له أمام اختبار القوة، فهل هي قادرة على تحمل كلفة المواجهة، وهي تعلم أن تراجعها خطوة واحدة إلى الوراء سيكسر هيبتها الوهمية ويضع حدا لاستقوائها على العراقيين، وما بينهما شارع منحاز كليا لسيادة الدولة لا يمكنه أن يتقبل فكرة أي تراجع قد يُقدم عليه الكاظمي.

نجح الكاظمي في توجيه إنذاره الأول وسهل الطريق أمام حكومته لتحقيق ما وعد به من حزمة إصلاحات توقف تسلط الأحزاب المسلحة على مقدرات الدولة، وبات بإمكانه استعادة وظائف الدرجات الخاصة والوكلاء من هيمنة أحزاب السلطة، وتحرير المعابر الحدودية من يد الميليشيات المسلحة، وهو يستند الآن إلى ثلاثية ذهبية "الجيش والشعب والمرجعية" معادلة باتت تشكل غطاء مؤسساتيا واجتماعيا وروحيا لخطواته، فالثقة تعززت بإمكانية فرض التغيير التدريجي.

ومما لا شك فيه أن قناعة مكونات المجتمع العراقي بإمكانية التغيير، حتى لو كانت حذرة، جاءت نتيجة قراره الصارم ليس في تغطيته السياسية للعملية الأمنية التي نُفذت ضد ميليشيات الكاتيوشا بل أيضا لرفضه المساومة وإصراره على نقل القضية إلى القضاء.

أمام مصطفى الكاظمي فرصة لن تتكرر لصناعة تاريخ جديد إذا أصر على التحدي بالرغم من الخسائر الجانبية والمؤلمة التي قد يتعرض لها العراق

كان القلق في البداية من أن القوات المسلحة لم تستعد عافيتها بعد، واعتقد البعض أن الفصائل المسلحة أكثر قدرة على المواجهة وأكثر فاعلية. لكن ما غاب عن بال الكثيرين أن في السنوات الأخيرة أصبحت القوات المسلحة العراقية المؤسسة الرسمية الوحيدة التي تحظى بإجماع وطني، هذا الالتفاف الوطني مكنها من مواجهة مخططات إضعافها وعزلها وتفريغها من قادته عبر الإقالات والتهميش، وهي الآن قد استعادت جزءا لا بأس فيه من قدراتها وعرّفت عقيدتها القتالية، وارتباطها الكامل بسلطة الدولة وسيادتها على مؤسساتها، ما يفرض عليها تصادما مع مشاريع الهيمنة على القرار السيادي العراقي من جماعات ما دون الدولة، وهذا كان واضحا في بيان قيادة العمليات المشتركة الذي أكد في مضمونه على سيادة الدولة وارتباط قرارها بالقائد الأعلى للقوات المسلحة فقط.

عمليا، وضعت هذه الفصائل المتفلتة نفسها في مواجهة ليست متكافئة، وكأنها لم تتعلم من تجارب الماضي ولا من مواجهات 2008 وما أسسته من انحياز اجتماعي عام لصالح الدولة وهي الآن توسع مأزقها مع خيارات العراقيين التي تبلورت بعد انتفاضة تشرين وأسست لهوية وطنية بعيدة عن الهويات العقائدية خصوصا تلك العابرة للحدود.

يقول كارل ماركس إن العنف ولادة التاريخ، ولكن لا يمكن الرهان عليه في صراعات العراق المعقدة والمركبة، إلا أن من لوح باستخدامه انقلبت تداعياته سلبا عليه، وهذا ما يُعطي مصطفى الكاظمي فرصة لن تتكرر لصناعة تاريخ جديد إذا أصر على التحدي بالرغم من الخسائر الجانبية والمؤلمة التي قد يتعرض لها العراق، لكنها باتت الحل شبه الوحيد مع أطراف ترفض قيام الدولة.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN)،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.