مزيج من الألم والأمل يستقبل صلاح زعتر ذكرى مرور 10 سنوات على الثورة الليبية التي شارك فيها مع ملايين الليبيين ضد نظام معمر القذافي، وفقد في سبيلها أعز الناس إليه، اثنين من أشقائه.
"كانت مثل الحلم الذي لم نتوقعه، في ظل نظام لم يكن يسمح بأي مجال لنشاط سياسي أو المطالبة بالتغيير أو حتى الإصلاح لأن الحديث في السياسة كان معناه الاعتقال ودخول السجن لسنوات طويلة"، يقول زعتر.
وجوبهت الاحتجاجات التي اندلعت في 17 فبراير 2011 بالعنف. ويتذكر زعتر كيف فتحت قوات الجيش والشرطة الليبية الرصاص الحي على المتظاهرين وقتلت مئات في ساحة الشهداء.
وسرعان ما تصاعدت إلى نزاع مسلح كامل؛ أدى في أعقاب حملة جوية شنها حلف شمال الأطلسي إلى إسقاط نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.
"الحلم والأمل"
يقول زعتر: "رغم العنف الذي قوبلنا به، عشنا مع الثورة الحلم والأمل في الحصول أخيرا على المساواة والديمقراطية وحرية التعبير وأن نحصل على حقوقنا كاملة خاصة في دولة غنية مثل ليبيا، فيها من الموارد ما يجعلنا نعيش في مستوى جيد جدا".
"حلت الثورة بغتة ولم يكن ثمة بديل جاهز يقود المرحلة كما ينبغي"، يقول الكاتب والمحلل السياسي الليبي عبدالله الكبير لموقع "الحرة"، "عشية الثورة لم تكن بليبيا كفاءات سياسية جديرة بالقيادة ولم تكن هناك مؤسسات يمكن الاعتصام بها عند الأزمات".
ويوضح: "في العامين التاليين للثورة كانت الأمور على أحسن ما يرام. جرت الانتخابات وبدأ الليبيون يتفاعلون مع عهد جديد مليء بالوعود الرائعة. تلا ذلك صراع محموم على السلطة سرعان ما انفجر لصراع مسلح".
ويرى الكبير أن الصراع السياسي والنعرات الجهوية وتصحر الحياة السياسية والتدخل الخارجي عوامل تضافرت لتنتج المشهد الليبي الحالي.
ويقول زعتر: "لم نقم بالثورة من أجل الكهرباء أو العيش، مثل معظم الثورات، بل من أجل الحقوق والمساواة والحريات، الآن أصبح أعظم طموح الليبيين أن يعيشوا فقط في سلام".
"الخوف من مصير مجهول"
ويوضح "لم نتوقع فقط الديمقراطية وحرية التعبير، بل توقعنا أن يتحسن وضع الناس المعيشي وأن نصبح في أمان، لكننا للأسف عشنا عشر سنوات عجاف من القتل والحرمان والخوف من المصير المجهول، بسبب الحروب والميليشيات التي أصبحت تتحكم في حياة الناس".
ومنذ 2014، ليبيا مجزأة بين كيانين متنافسين على الشرعية، والحكم، والسيطرة.
وليبيا غارقة في فوضى غذتها التدخلات الأجنبية منذ سقوط نظام معمر القذافي في العام 2011، وشهدت نزاعا بين سلطتين: حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من الأمم المتحدة والتي تتخذ طرابلس في الغرب مقرا لها، وسلطة يجسدها الجنرال خليفة حفتر في شرق البلاد.
"فقدنا أعز الناس"
وتمتزج ذكرى الثورة، لدى زعتر، بذكرى فقدان أحبته وأهمهم أشقاؤه علي وموسى زعتر، اللذين فقدا حياتهما في عام 2015 عندما تصدى أحدهما لتنظيم داعش الذي كان يسيطر على مدينتهم، أما الآخر فاختطفه التنظيم بعدها بشهر وقام بتصفيته، "الثورة أخذت مني أعز الناس الذين ماتوا لحماية البقية".
ولأن صلاح كان صحفيا وناشطا مدافعا عن حقوق الإنسان، وبسبب الوضع غير المستقر، أصبحت حياته في خطر، فانتقل إلى أوروبا، ويقيم في ألمانيا حتى هذه اللحظة.
وكما أن عملية المساءلة لا تزال بعيدة المنال عن الجرائم التي ارتكبت في ظل حكم القذافي، بما في ذلك مذبحة 1996 للسجناء في سجن أبو سليم، لا يزال قتلة شقيقي صلاح زعتر بعيدين عن العدالة، حيث ترسخ الإفلات من العقاب بشكل بالغ على مدى السنوات العشر الماضية، حسب رأيه.
وقالت منظمة العفو الدولية، الأربعاء، "بعد مضي عقد من الإطاحة بمعمر القذافي، لم تتحقق العدالة لضحايا جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك عمليات القتل غير المشروع، والاختفاء القسري، والتعذيب، والتهجير القسري، والاختطاف، التي ترتكبها الميليشيات والجماعات المسلحة".
لم يتوقف الأمر عند عدم المساءلة، بل قامت السلطات الليبية بترقية وإضفاء الشرعية على قادة الميليشيات المسؤولة عن الأعمال المروعة، ومن ضمنهم قتلة شقيقي صلاح زعتر الذين انضموا لميليشيات في طرابلس وسافر بعضهم إلى تركيا، حسب قوله.
إفلات من العقاب
منذ سقوط القذافي، دمجت الحكومات المتعاقبة العديد من الميليشيات تحت وزارات الدفاع أو الداخلية، أو ككيانات منفصلة مسؤولة أمام الرئاسة، وأدرجتهم في كشوف الرواتب الرسمية.
ففي يناير الماضي، عين المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، التي تتخذ من طرابلس مقرا لها، زعيم ميليشيا قوة الأمن المركزي أبو سليم، عبد الغني الكيكلي، والمعروف أيضا باسم غنيوة، رئيسا لكيان جديد يسمى "جهاز دعم الاستقرار"، المسؤول مباشرة أمام الرئاسة، بحسب ما نقلت صحف محلية ليبية.
و بحسب منظمة العفو الدولية، كانت "حكومة الوفاق الوطني قد وفرت بالفعل الشرعية والرواتب لميليشيا غنيوة منذ عام 2016؛ وذلك من خلال دمجها في وزارة الداخلية الخاصة بها، مما يسهل أكثر عمليات القتل غير المشروع، وعمليات الاختطاف، والتعذيب، بما في ذلك العنف الجنسي ضد المحتجزات".
ليس غنيوة وقواته في أبو سليم الوحيدين الذين يكافأون على الرغم من سجلاتهم القاتمة في مجال حقوق الإنسان.
فقد تم تعيين هيثم التاجوري، الذي ترأس ميليشيا كتيبة ثوار طرابلس، المتورطة في عمليات الاحتجاز التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب، بحسب تقرير للأمم المتحدة، نائبا لغنيوة في يناير 2021.
ووفقا لمنظمة العفو الدولية "تقاعست الحكومات المتعاقبة عن مقاضاة أعضاء مليشيات مسؤولة عن جرائم حرب، بما في ذلك الهجمات ضد المدنيين مثل هجوم 2011 على مدينة تاورغاء، حيث تعرض حوالي 40 ألف شخص للنزوح القسري. كما عرضت الميليشيات، التي تتخذ من مصراتة مقراً لها، سكانها لاعتقالات تعسفية واسعة النطاق، وعمليات قتل غير مشروع، وتعذيب في الحجز؛ مما أدى أحيانا إلى وفاة المحتجزين".
أما قوات ما يسمى بـ"الجيش العربي الليبي" التابع للرجل القوي في شرق ليبيا، الجنرال خليفة حفتر، فقد تقاعست عن اعتقال زعيم الميليشيا محمود الورفالي، وهو مطلوب من قبل المحكمة الجنائية الدولية بتهمة قتل 33 شخصا؛ بحسب موقع المحكمة، وبدلا من ذلك فقد تمت ترقيته إلى مقدم في لواء الصاعقة، بحسب منظمة العفو الدولية.
ولا يزال العديد من الأفراد الآخرين الذين أصدرت المحكمة الجنائية الدولية ضدهم أوامر اعتقال للاشتباه في ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية، أو خضعوا لعقوبات مجلس الأمن الدولي لدورهم في الاتجار بالبشر، طلقاء أحراراً، أو حتى قاتلوا إلى جانب حكومة الوفاق الوطني أو القوات المسلحة العربية الليبية.
وواصلت القوات المسلحة العربية الليبية إيواء قادة اللواء التاسع، المعروف باسم "قوات الكنيات"، على الرغم من تورطها في عمليات القتل الجماعي وإلقاء الجثث في المقابر الجماعية وعمليات التعذيب والاختطاف في مدينة ترهونة، بحسب منظمة هيومن رايتس ووتش.
لماذا غابت العدالة؟
ويرى رئيس منظمة نداء لحقوق الإنسان والتنمية المجتمعية، وأستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان بجامعة مصراتة، موسى القنيدي، في حديثه مع موقع "الحرة" أن هناك الكثير من الأسباب التي أدت إلى غياب محاسبة مرتكبي الانتهاكات خلال السنوات العشر الماضية، أهمها ضعف السلطة المركزية والحكومات الانتقالية المتعاقبة وعدم قيامها بالدور الأمني، وانتشار السلاح وسيطرة التشكيلات المسلحة وقيامها بالمهام الأمنية بدلا عن وزراة الداخلية، كما أن الاستعانة بهذه التشكيلات عقب سقوط النظام السابق مكنها من تقوية وتنظيم نفسها جيدا".
ويقول الكبير لموقع "الحرة": "هناك أمل ضعيف في المحاسبة. لابد أولا من وجود دولة قوية تحتكر العنف، وقضاء مستقل يملك الأدوات اللازمة لجلب المجرمين للعدالة".
ولا يزال النظام القضائي في ليبيا مختلا وغير فعال، حيث يخاطر القضاة والمدعون العامون بالتعرض للاغتيال والاختطاف بسبب قيامهم بوظائفهم.
ويقول زعتر لموقع "الحرة": "ليبيا دولة هشة، وليس لدينا مؤسسات بما فيها القضاء. إذا تم اعتقال مرتكب جريمة، فإن مجموعة من الميليشيا المنضوي لها هذا المجرم، تأتي لمركز الاحتجاز وتخرجه بالقوة إذا لزم الأمر".
بلد مزقته الصراعات
وأطلق الجنرال خليفة حفتر حملة ضد حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتحدة في طرابلس منذ ما يقرب من عامين. وقد صدت حكومة الوفاق الوطني الهجوم منتصف العام الماضي بدعم من تركيا على الرغم من مساندة مصر والإمارات وروسيا لحملة حفتر.
ومنذ فشل القوات الموالية لحفتر في الاستيلاء على طرابلس، جرت محاولات وساطة عديدة.
ودخل وقف إطلاق النار بوساطة من الأمم المتحدة حيز التنفيذ في أكتوبر وما زال مطبقا إلى حد كبير.
وأسفر الحوار بين الليبيين هذا الشهر عن اختيار سلطة تنفيذية جديدة بقيادة رئيس الوزراء المؤقت عبد الحميد دبيبة ومجلس رئاسي من ثلاثة أعضاء، مكلفين بالتمهيد لإجراء انتخابية في ديسمبر المقبل. كل ذلك بدعم رسمي من كل من حفتر وحكومة الوفاق الوطني المنتهية ولايتها.
ويرى القنيدي، في حديثه مع موقع "الحرة" أن المرحلة الجديدة تمثل فرصة حقيقية لإعادة تشكيل السلطة التنفيذية والمجلس الرئاسي بدعم من البعثة الأممية وتبني سياسة عقابية شاملة لمعالجة إرث الماضي من الانتهاكات والتعامل بحزم من المسؤولين عنها.
ودعت نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية، ديانا الطحاوي أطراف النزاع في ليبيا، وحكومة الوحدة القادمة، إلى "ضمان عدم تعيين المشتبه في ارتكابهم جرائم بموجب القانون الدولي في مناصب يمكنهم فيها الاستمرار في ارتكاب الانتهاكات، وترسيخ الإفلات من العقاب"، مؤكدة أنه يجب تعليق عمل الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم حرب في مناصب السلطة في انتظار نتائج تحقيقات مستقلة وفعالة.
أمل رغم الألم
وبالرغم من أن بلادهم ما زالت تعاني من انقسامات، فإن إعادة إطلاق الحوار السياسي، وتحديد موعد للانتخابات أحيت الأمل لدى الليبيين في ولادة دولة ديموقراطية، إذ خرج الليبيون، الأربعاء، يحيون ذكرى الثورة وزينت الشوارع باللافتات والأضواء وقطع الزينة بينما تم تجديد طلاء واجهات المباني.
وفي أحياء طرابلس السكنية، تبطئ الاختناقات المرورية حركة المرور وتنطلق من السيارات أناشيد شعبية للثورة. ورغم العطلة الرسمية، فتح العديد من المتاجر أبوابه.
ونظم الجزء الأساسي من الاحتفالات، الأربعاء، في ما كان يعرف في الماضي باسم الساحة الخضراء التي كان يلقي فيها القذافي خطبه. وقد فرضت إجراءات أمنية مشددة فيها.
ويقول القنيدي "نعم متفائل بالمرحلة المقبلة شرط أن تكون الانتخابات المزمع إجراؤها بدعم وتأييد دولي وعلى قاعدة قانونية صلبة، بأن تكون على الدستور بعد الاستفتاء عليه على سبيل المثال، كما أن الأمر مقرون أيضا بعدم تجدد النزاعات المسلحة في أي منطقة من البلاد وألا يتم عرقلتها من قبل بعض الجماعات والتشكيلات المسلحة وغيرها أو من بعض الأحزاب السياسية التي تخشى الانتخابات أو من قبل بعض الدول الداعمة للفوضى".
ويرى الكبير أن الانتخابات خطوة حاسمة لإنهاء النزاع على الشرعية والسلطة، "لكن ثمة قضايا خلافية أخرى لن تحلها الانتخابات، مثل الصراع بين الشرق والغرب حول السلطة والثروة ونصيب كل طرف منها".
لكن القنيدي يقول إن "الانتخابات على الأقل ستأتي بأجسام حاكمة لها شرعية من قبل الشعب وتعتبر خطوة مهمة نحو إنهاء انقسام المؤسسات وتوحيد الشرعية"
ورغم حزنه على مقتل شقيقه فإن صلاح زعتر لا يزال يؤمن بالثورة التي شارك فيها من أجل الدماء التي زهقت "واختارت أفضل من فينا. أؤمن بالثورة عشان اخواتي اللي ضحو عشان العدل وكانوا مؤمنين بالحرية والديمقراطية وأنا متأكد أن دمهم لم يذهب هباء".
ويقول "حتى الثورة إذا لم تنجح الآن فأنا متأكد أن الأجيال التي ستأتي بعدنا راح تناضل حتى تصل لما كنا نصبو إليه، لأن الثورة تحتاج لوقت حتى تنضج".
رغم أن زعتر حصل على جائزة أوروبية في الصحافة، فإنه ترك المهنة حتى يهرب من الحزن والألم.
انتقل زعتر إلى مجال الفن، الذي يحاول من خلاله التعبير عن قضايا اللاجئين والمهمشين وحقوق الإنسان، ومكافحة العنصرية.
ويضيف "لدي أمل كبير في أن تزدهر ليبيا وأن يتعلم الليبيون مع الوقت الطريق إلى الحرية والديمقراطية والتعايش السلمي وتقبل بعضنا البعض الآخر، ونتعلم التنوع لأن عندنا الأمازيغ الطوارق والتبو والعرب والليبيون. بالتأكيد راح نلاقي طريقة نتعايش فيها ويأتي الوقت الذي نتتشارك فيه الخيرات ونعيش مع بعضنا في حب وسلام".