لا يزال 36 شخصا محتجزين في غوانتانامو
لا يزال 36 شخصا محتجزين في غوانتانامو

لا تزال إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، تسعى لإغلاق سجن خليج غوانتانامو بصفة نهائية بعد أن بقي فيه عشرات النزلاء المتهمين بالإرهاب.

في يناير الماضي وبالتزامن مع الذكرى العشرين لافتتاحه، جدد المتحدث باسم البنتاغون، جون كيربي، الإشارة إن الإدارة "ما زالت ملتزمة إغلاق سجن خليج غوانتانامو". وأضاف في حديث للصحفيين "نحن بصدد دراسة سُبل المضي قدما".

في هذا الإطار، تساءلت صحيفة "نيويورك تايمز" في تقرير جديد لها عن إمكانية أن تلعب السعودية دورا جديدا في إغلاق السجن من خلال إمكانية نقل ما تبقى من المعتقلين إلى مركز المناصحة والرعاية، لا سيما وأن إدارة بايدن تحتاج لدراسة خيارات أخرى عن تلك التي فشلت سابقا في عهد أوباما.

ومركز المناصحة والرعاية هو برنامج تابع للحكومة السعودية أطلق لأول مرة عام 2004 لإعادة دمج المتطرفين في المجتمع من جديد بعد تأهيلهم عقليا ونفسيا وجسديا عقب موجة إرهاب تعرضت لها المملكة خلال تلك الفترة.

وزارت "نيويورك تايمز" مقر مركز المناصحة والرعاية التابع لوزارة الداخلية السعودية في الرياض خلال عطلة عيد الأضحى الأخيرة، حيث كان النزلاء في إجازة لزيارة عائلاتهم، حيث التقت الصحيفة بمسؤولي المركز وشهدت مرافقه من بركة السباحة ومكتبة والغرف الفردية المنفصلة وصالة الألعاب الرياضية.

كانت الولايات المتحدة قد احتجزت حوالى 780 شخص في سجن غوانتانامو عند افتتاحه ضمن حملة في عهد الرئيس الأسبق، جورج دبليو بوش، لمكافحة الإرهاب، وكان هناك حوالى 660 شخص عام 2003.

كان المواطنون السعوديون محل اهتمام خاص؛ لأن 15 شخصا من الخاطفين التسعة عشر في هجمات 11 سبتمبر الإرهابية كانوا سعوديين، كما تقول الصحيفة.

وافتتح سجن غوانتانامو في 2002 في القاعدة الأميركية بكوبا لاحتجاز أعضاء في تنظيم القاعدة وشركاء مفترضين لمنفذي اعتداءات 11 سبتمبر 2001.

بين الرفض والقدرة على إدارة الخطر

لكن الكاتب والباحث السعودي، حسن المصطفى، يرى أن "السعودية لن تكون بمثابة المقر الذي يستضيف من لا ترغب الولايات المتحدة الأميركية في إبقائهم لديها من الجنسيات المختلفة".

ولا يزال 36 سجينا في غوانتنامو أغلبهم من الجنسية اليمنية بعد أن أرسلت الولايات المتحدة السجناء الآخرين لدول مختلفة عندما كانت تلك المنشأ تحتضن مئات المعتقلين سابقا.

ويرفض المصطفى الفكرة قائلا إن "هناك نظاما وقانونا في المملكة يدير شؤون السجون والقضايا المتعلقة بأمن الدولة، وهذا القانون على واشنطن أن تحترمه وتعمل وفق مقرراته إذا أرادت التعاون الأمني مع الرياض في ملف معتقلي غوانتانامو".

ومع ذلك، قال في حديثه لموقع "الحرة" إنه "من الطبيعي أن تستعيد الرياض المواطنين السعوديين وتستكمل الإجراءات القانونية والتحقيقات الأمنية بحقهم، وتعيد تأهيلهم تمهيدا لدمجهم في المجتمع وعودتهم مواطنين بعيدين عن العنف والإرهاب".

وتشمل الحالات الصعبة الأخرى مسلما من عرقية الروهينجا عديم الجنسية، وشخص يحمل الجنسية الباكستانية تلقى تعليمه في ماريلاند وأصبح مخبرا للحكومة الأميركية ويخشى الاضطهاد إذا أعيد إلى وطنه، بالإضافة إلى مواطن سعودي ينتقد الأسرة المالكة في المملكة، بحسب "نيويورك تايمز".

وفي السياق ذاته، ترى المستشارة والباحثة في الأمن الفكري ومكافحة التطرف والجريمة، فهدة العريفي، أن السعودية "قادرة" على احتضان معتقلي غوانتانامو إذا ما كان هناك أي اتفاق بين الرياض وواشنطن.

وقالت لموقع "الحرة" إن المملكة "قادرة على إدارة الخطر الذي يشكله هؤلاء المعتقلون وكبح جماح أي تطرف أو تشدد يشوب فكرهم وإعادة دمجهم في المجتمع".

وأضافت العريفي أن "الحكومة السعودية تتمتع بأدوات سياسية مؤسسية وموارد كبيرة يمكنها تجنيدها في التعامل مع كافة المعتقلين مهما كانت درجات تشددهم أو إرهابهم". ودللت العريفي على حالات استقبلتها المملكة من سجن غوانتانامو.

كانت إدارة ترامب أفرجت عن سجين واحد فقط من غوانتانامو وهو ناشط سعودي ينتمي لتنظيم القاعدة ويقضي حاليا عقوبة السجن في الرياض بموجب اتفاق يعود إلى عهد أوباما. 

وأعادت إدارة بايدن مواطنا سعوديا آخر في مايو الماضي، لكن بموجب اتفاق لإرساله للعلاج النفسي من مرض انفصام الشخصية وليس لإعادة التأهيل من الفكر الجهادي.

"إنسانية وصرامة"

وكان جو بايدن نائبا للرئيس عندما أمر الرئيس الأسبق، باراك أوباما، بإغلاق غوانتانامو في يناير 2009 لمحاكمة السجناء أمام محاكم مدنية. لكن القرار الذي لم يلقَ شعبية، علق في الكونغرس.

وخلال ولايتيه الرئاسيتين، فضل أوباما الإفراج سرا عن مئات المعتقلين الذين وافقت لجنة مراجعة الرئاسة على إطلاق سراحهم. 

وفي يونيو الماضي، تقدم الديمقراطيون في مجلس النواب بتشريع يسعى إلى إغلاق منشأة غوانتانامو في كوبا كجزء من مشروع قانون سنوي أكبر للإنفاق الدفاعي من المتوقع أن يطرح للتصويت في المجلس خلال أسابيع.

إلى ذلك، نما البرنامج السعودي المخصص لمكافحة الإرهاب منذ بدايته عام قبل 18 عاما بهدف إعادة تثقيف المواطنين الذين شقوا طريقهم إلى معسكرات الجهاديين في أفغانستان وغيرهم ممن تأثروا بالأفكار المتطرفة.

وقالت العريفي إن المملكة تتعامل مع المستفيدين من مركز المناصحة بـ "إنسانية وحزم وصرامة أيضا" بحسب الجريمة التي ارتكبوها.

وأضافت أن المملكة "تقدم لهم برامج متعددة بإشراف مختصين ومتابعة جهات عليا لإعادتهم لجادة الصواب وطريق الحق بحذر شديد وحرص، فهؤلاء محقونون بفكر مختل وكل خلل قابل للتعديل اذا عولج بشكل صحيح".

وبحسب "نيويورك تايمز"، خضع حوالى 6000 رجل لشكل من أشكال البرنامج من بينهم 137 معتقلا سابقا في السجن العسكري الأميركي بخليج غوانتانامو. ولم يُدان أي منهم بارتكاب جرائم حرب.

وأرسل آخر معتقل في غوانتانامو إلى البرنامج السعودي عام 2017، قبل أن يفكك الرئيس السابق، دونالد ترامب، المكتب الذي تفاوض بشأن عمليات النقل.

ويمزج برنامج المناصحة دروسا حول التفسيرات اللاعنفية للشريعة مع اللياقة البدنية والترفيه والاستشارات التي تهدف إلى إعادة أولئك الذين يتخرجون إلى عائلاتهم، بحسب وصف مديرو البرنامج.

في مكتبة المركز، توجد نصيحة للنزلاء بالقراءة عن السعوديين الناجحين "لتجنب القدوة الخاطئة وليس الطريقة التي تحولك إلى الظلام أو الموت".

وفي حديثه للصحيفة الأميركية، قال مدير البرنامج السعودي اللواء، ونيان عبيد السبيعي، إن سجينين سابقين بغوانتانامو في السجون السعودية سيتم قبولهما في البرنامج بمجرد انتهاء فترة عقوبتهما. أحدهما هو أحمد محمد هزاع الدربي الذي أفرجت عنه إدارة ترامب، بينما هوية السجين الآخر غير معروفة.

"السجن وحده ليس علاجا"

ومن بين 137 معتقل أعيدوا إلى السعودية من غوانتانامو بعضهم للسجن، انضم 116 شخص إلى المجتمع وظلوا بعيدا عن المشاكل، وأعيد القبض على 12 شخصا وقتل ثمانية، فيما بقي شخص واحد في عداد المطلوبين، وفقا لما نقلت "نيويورك تايمز" عن برنامج المناصحة السعودي.

بدوره، يرى المصطفى أن "السجن وحده ليس علاجا" وأن "المهم هو التبدل الفكري ومعالجة الخطابات الأصولية ونقدها وتفكيك سرديتها التي على أساسها حمل المتطرفون السلاح".

وأشار إلى أن "إعادة التأهيل عميلة تأخذ وقتا، وتتم عبر برامج ثقافية وفنية واجتماعية ورياضية ومهنية، وأيضا من خلال القراءة والنقاشات الجادة والمراجعات لما مضى من تجارب قادت البعض للعنف والإرهاب".

وبينما يعتقد المصطفى أن هناك إمكانية لدمج سجناء غوانتانامو في المجتمع بعد دخولهم في البرنامج، ترى العريفي أن الموضوع سابق لأوانه ويختلف بين حالة وأخرى.

وأوضحت العريفي أن "تواجد المعتقلين لسنوات طويلة في معتقل غوانتانامو مع ما يتم تداوله عن معاملة السجناء هناك، بالطبع سيكون له أثر قوي في شخصياتهم وصحتهم النفسية وسيلقي بأثره على عقولهم".

وأشارت إلى أن عمليات التأهيل قد تحتاج لجهود مكثفة وبرامج متعدد وفترة زمنية قد تكون طويلة، مضيفة: "من السابق لأوانه الحديث عن إعادة دمجهم في المجتمع ما لم يمروا بالعديد من الاختبارات والتحليلات والتأهيل والتوعية والعلاج وهذا يتطلب جهد ووقت طويل".

أما المصطفى فيقول إن الاندماج أمر "ممكن" شرط حدوث "تغيير حقيقي ذهني ونفساني لدى الشخص، وكانت لديه إرادة قوية للمراجعة الفكرية والتخلص من التبعية لدعاة التكفير والقتل".

وشدد على أهمية الوعي وقبول لهؤلاء الأشخاص قائلا إن على المجتمع أن "يشكل حاضنة إيجابية تساعد الأفراد على التخلص من الماضي العنيف وتدفعهم لرؤية التغيرات الإيجابية".

استبعاد للدور السياسي

كانت السعودية واحدة من الدول التي احتلت مكانة بارزة في خطط إعادة التوطين عند محاولات إدارة أوباما إغلاق السجن، بحسب "نيويورك تايمز". كما تصر إدارة بايدن على الذهاب في اتجاه إغلاق هذه المنشأة.

في يناير، طالب خبراء مستقلون منتدبون من الأمم المتحدة الولايات المتحدة بإغلاق سجن غوانتانامو الذي يشهد "انتهاكات متواصلة لحقوق الإنسان". كما دعوا إلى إعادة المعتقلين الذي ما زالوا في غوانتانامو إلى أوطانهم أو إرسالهم إلى بلدان ثالثة آمنة، وتعويضهم عن أعمال التعذيب والاعتقالات التعسفية التي تعرضوا لها، وفقا لوكالة فرانس برس.

ونال أكثر من نصف المعتقلين حاليا في غوانتانامو البراءة للإفراج عنهم، لكن يتعين عليهم انتظار إدارة بايدن للعثور على دولة مستعدة لاستيعابهم في الترتيبات الأمنية. ومعظم السجناء الحاليين من اليمن، وهي واحدة من عدة دول يعتبرها الكونغرس غير مستقرة للغاية لاستقبال هؤلاء المعتقلين.

وفي سؤال أي دور سياسي يلعب في صفقة محتملة بين واشنطن والرياض في نقل ما تبقى من معتقلي غوانتانامو إلى المملكة، استبعد المصطفى أن تعمل السعودية على تسيس ملف حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب.

وقال: "لا أعتقد أن السعودية ستقبل بأن يُسيس ملف حقوق الإنسان أو مكافحة الإرهاب ضمن صفقات لأغراض انتخابية أو مكاسب أميركية داخلية وإنما ستتعامل مع الملف من زاوية المصلحة الوطنية السعودية أولا وحفظ الأمن القومي ثانيا واستعادة الموقوفين السعوديين ثالثا، خصوصا من يرتبطون بقضايا حصلت داخل السعودية، أو ذوي الحالات الإنسانية الخاصة، وذلك من أجل استكمال أي تحقيقات لإعادة تأهيلهم وإدماجهم في المجتمع بعد إكمالهم لبرنامج الرعاية والتأهيل وقضائهم أي محكوميات صادرة قضائيا بحقهم في حال وجودها".

في دارة الملك عبدالعزيز بالرياض، صورة تجمع الملك عبد العزيز وعبد اللطيف المنديل- تويتر
في دارة الملك عبدالعزيز بالرياض، صورة تجمع الملك عبد العزيز وعبد اللطيف المنديل- تويتر | Source: Social Media

تاجر عراقي نال ثقة مؤسّس المملكة العربية السعودية عبد العزيز بن سعود، حتى إنه كان مفاوضه الرئيس في مباحثاته الدبلوماسية الهامة مع قوى المنطقة، هو عبد اللطيف المنديل.

لعب المنديل دوراً كبيراً في مرحلة تأسيس المملكة، وتكريماً له أطلقت السعودية اسمه  على أحد شوارعها.

في كتابه "ملوك العرب" اعتبر أمين الريحاني أن المنديل أخلص لآل سعود مثلما أخلص لوطنه العراق.

وقال عبد الرحمن الشبيلي في كتابه "أعلام بلا إعلام"، إن الأصول الأولى لعائلة المنديل تنحدر من بلدة جلاجل التي تقع شمال الرياض، وفي 1837 نزح إبراهيم المنديل والد عبد اللطيف إلى الزبير (تقع داخل البصرة) ليشتغل بالتجارة ما بين البصرة وبغداد إلى جانب مدن في الهند، فحقّق مكانة اجتماعية كبيرة مُنح بموجبها لقب "باشا" من الوالي العثماني يوسف شقيق.

وذكر عبد الرزاق العلي في كتابه "إمارة الزبير بين هجرتين" أن عبد اللطيف كان جزءاً من بعثة دراسة أوفدت إلى إسطنبول درس أعضاؤها العلوم الحربية والقانون، ثم عاد بعدها إلى العراق.

امتلكت عائلة المنديل علاقة وطيدة وقديمة بآل سعود ترجع إلى فترة وجودهم بالسعودية عندما حكم جدهم الأكبر سويّد مدينة جلاجل خلال عهد الدولة السعودية الثانية.

بموجب هذه العلاقة عمل عبد الوهاب المنديل وكيلاً للإمام عبد الرحمن والد الملك عبد العزيز، وعقب وفاته ورث شقيقه عبد اللطيف مهمته وبات الوكيل الرسمي للسعوديين في البصرة، وتحديداً عبد العزيز الذي ورث بدوره منصب أبيه.

تدليلاً على متانة العلاقة بين ابن سعود وابن المنديل، أورد أمين الريحاني في كتابه "تاريخ نجد الحديث" أنه في 1910 تعرّض عبد العزيز لأزمة شديدة بعدما نجح أعداؤه من آل الرشيد في تحقيق انتصارات ضد حلفائه، في وقتٍ شحّت الأموال بشدة معه، عندها اضطر لمراسلة المنديل طالباً منه ألفي ليرة يدبّر بها أمره ويعيد بناء صفوفه.

ضابط الاتصال مع القوى الأجنبية

بحسب كتاب "موسوعة تاريخ الخليج العربي" لمحمود شاكر، اضطرت الدولة العثمانية بعد اشتعال حرب البلقان في 1913 إلى سحب أعداد كبيرة من قواتها في الجزيرة لتواجه هجوم البلغاريين على أدرنة، وهي الفرصة التي استغلّها عبد العزيز آل سعود لشنِّ هجومٍ على الإحساء.

لعب عبد اللطيف المنديل دور الوسيط بين ابن سعود وجمال باشا والي بغداد لتسليم الإحساء دون قتال، إلا أن جهود الوساطة فشلت بسبب تشدد القائد العثماني في مطالبه حتى أنه هدّد بغزو نجد.

نجح ابن سعود في تنفيذ خطته واستولى على الإحساء وطرد الحامية العثمانية منها بعدما نقلهم بالسفن إلى البحرين، بعدها بعام عُقد مؤتمر في الصبيحة بين ابن سعود وممثلين عن الدولة العثمانية لعب المنديل خلاله دوراً كبيراً في رأب الصدع بين الطرفين حتى انتهى المؤتمر باعتراف العثمانيين بسُلطان آل سعود على نجد.

في العام نفسه، رصدت بريطانيا إرسال ابن سعود 20 ألف روبية هدية لطالب النقيب والي البصرة من أجل كسب ودّه وتقوية موقفه أمام العثمانيين، كما جاء في البرقية التي أرسلها الميجر نوكس ممثل بريطانيا في الكويت إلى وزارة الخارجية البريطانية، وورد نصّها في كتاب "الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية" لمجدة فتحي صفوة.

بعدما بدأ عبد العزيز في وضع أُسس دولته الحديثة كلّف المنديل بإدارة أول ميناء عرفه الخليج العربي، هو ميناء العقير، وتحمّل الأخير مسؤولية ترتيب أوضاعه وإدارة شؤون جماركه.

قال حافظ وهبة في كتابه "جزيرة العرب في القرن العشرين": "طيلة الحرب العالمية الأولى نظّم عبد اللطيف جمارك النجديين فرفع قيمتها من 5 آلاف جنيه إلى 20 ألفاً".

بخلاف هذه المهام لعب المنديل لسنوات طويلة دور ضابط الاتصال الرئيس بين ابن سعود وبيرسي كوكس ممثل بريطانيا في الخليج، لتبادل الآراء في قضايا المنطقة.

في كتابه "المدينة المنورة والحصار الأخير" أورد حاكم المطيري جانباً من هذه المراسلات؛ منها أنه في ديسمبر 1914 وصف ابن سعود لكوكس أن المنديل وأسرته "جديرون بالاحترام" فردَّ عيه الدبلوماسي الإنجليزي بأنه سيُظهر "رعايته واهتمامه بأصدقاء السعوديين في البصرة مثل ابن المنديل".

بعدها بعامين نقل المنديل إلى كوكس بأن رجال آل سعود أنزلوا هزيمة بابن الرشيد في إحدى المنازلات المستمرة بينهما، ثم طالب بعدها ابن سعود بالمزيد من الدعم الإنجليزي من الأسلحة والذخيرة لإعانته في الإجهاز على عدوه.

عام 1922، عُقد اجتماعٍ آخر بالغ الأهمية لتعيين الحدود بين سلطنة نجد -لم تكن قد تحوّلت إلى السعودية بعد- والكويت والعراق، جمع ابن سعود وكوكس ووفدين مصاحبين لهما، كان لافتاً أن يمثّل العراق صبيح نشأت وزير الأشغال والمواصلات أما المنديل فقد خاض هذا المؤتمر ممثلاً عن نجد، وفقاً لما ذكره خالد السعدون في كتابه "العلاقات بين نجد والكويت".

قال السعدون إن الاجتماع عكس فجوة كبيرة في مطالب الطرفين؛ فعندما طالَب ابن سعود بأن تمتدَّ حدود دولته الوليدة حتى نهر الفرات ردّ عليه صبيح بأن بغداد لن تقبل حدوداً لا يفصلها عن الفرات إلا 200 ميل على الأقل، هنا علّق كوكس قائلاً إن المفاوضات لو استمرت بهذه الطريقة فلن تنتهي قبل سنة.

وحينما جاء أوان ترسيم الحدود مع الكويت دافع المنديل عن مصالح نجد بشراسة بعدما رفض وجود منطقة حدودية بين نجد والكويت بسبب احتمالية وجود نفط فيها.

 نشاط على الساحة العراقية

انشغال المنديل بدعم ابن سعود لم يمنعه من العمل أيضاً داخل العراق فنشط في ولاية البصرة وكان أحد أبرز رجالاتها خلال العهدين العثماني والإنجليزي.

بعد خضوع العراق للانتداب البريطاني أصبح المنديل عضواً في مجلس الإشراف من 1914 وحتى 1919. وعلى وقع "ثورة العشرين" استبدلت بريطانيا مندوبها السير أرنولد ولسون بالسير بيرسي كوكس لإدارة العراق بشكلٍ مختلف يلعب فيه أهل البلاد دوراً أكبر في حُكم أنفسهم.

رعَى كوكس تشكيل أول حكومة عراقية برئاسة عبد الرحمن النقيب وعُيّن فيها عبد اللطيف المنديل وزيراً للتجارة.

بحسب كتاب "أعلام الفكر الإسلامي في البصرة" لعبد اللطيف الشنقيطي، فإن المنديل قاد وفدًا لمقابلة السير كوكس في 1921 وطالبه بفصل البصرة عن العراق ومنحها استقلالها السياسي.

وجاء في كتاب "سقوط عبد الكريم قاسم" للعميد خليل إبراهيم، أن عدداً من أعيان العراق تصدّوا لهذا الطلب وشجّعوا المندوب السامي البريطاني على إهماله، إلا أن ذلك لم يمنع المنديل من تكرار عرض الفكرة على كوكس في العام التالي ليرفضها الأخير مجدداً.

حينما أُعلنت الملكية في العراق تعرّض المنديل لاختبار صعب بعدما خضع العراق لحُكم الهاشميين الذين يكنّون عداءً كبيراً للسعوديين، وسريعاً وقع الصدام بين الملك فيصل الأول والمنديل.

في كتابه "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث"، كشف الدكتور علي الوردي جانباً من تفاصيل هذه الأزمة التي وقعت عام 1922، حينما طلب الملك زيادة الميزانية المخصصة للدفاع عن العراق للتصدي لهجمات أتباع ابن سعود المتتالية على حدود الدولة، فرفض عددٌ من الوزراء منهم المنديل؛ بحجة أن الدفاع عن الدولة مسؤولية الحكومة البريطانية لا الحكومة العراقية بناء على الاتفاقية الموقّعة بين الطرفين.

 أثار موقف الوزراء المعارضين لتقوية الجيش ضجة بالعراق؛ انتقده الملك والصحف المحلية التي شنّت حملة شعواء ضد ابن سعود ووصفته بأنه "لينين نجد". في هذه الأجواء اضطر المنديل للاستقالة لصلته الوثيقة بابن سعود.

بعد عامين من هذه الأزمة، بنى المنديل لنفسه قصراً جميلاً عُرف بِاسم "بيت الباشا" اعتبره البغداديون تحفة فنية بسبب كثرة زخارفه ومتانة بنيانه قضى بها ما تبقى من حياته.

ووفقاً لما ذكره الشنقيطي، فقد أفضى المنديل في بداية الثلاثينيات إلى رجل الدين محمد الأمين الشنقيطي برغبته في رعاية إنشاء مدرسة أهلية للبنات، ودعمه الشنقيطي في هذا الشأن.

إلا أن رفض فريقٍ من المجتمع العراقي لفكرة تعليم النساء هيّجت بعضهم فعارضوها بشدة إلى حدِّ الاعتداء على الشنقيطي ضرباً فاضطر المنديل لتأجيل تنفيذ المشروع.

على إثر خلاف المنديل مع الملك فيصل، اعتزل الحياة العامة وانشغل بإدارة أعماله التجارية وحقق نجاحاً متنامياً، فصنفته جريدة "الناس" البصرية عام 1939 في قائمة "كبار الأملاك" في البصرة التي تضم كبار أعيان الناحية، كما أورد عبد الرزاق العلي في كتابه "إمارة الزبير بين هجرتين".

بعدها بعام داهم المرض المنديل وتوفي بسببه داخل قصره المنيف، وحينها رثاه الشاعر الشهير معروف الرصافي قائلاً: "عبد اللطيف بفضله جعل الورى.. أسرى مكارم أسرة المنديل".