Jordan's King Abdullah delivers his speech at the European parliament Wednesday, Jan.15, 2020 in Strasbourg, eastern France. …
الملك الأردني عبدالله الثاني

المشهد في الأردن صعب ومُلتبس، وكثير من الأبواب الموصدة بعد جائحة كورونا تبدو عسيرة على الفتح، والأخطار التي كانت عمّان مُحترفة في التعامل معها واحتوائها تظهر ضعفا، أو عجزا في دحرها وهزيمتها، والحلفاء الذين كانوا يصنعون من "ظهرهم" جدارا تستند عليه لتذليل مشكلاتها إما منشغلين عنها، أو غير عابئين بها، أو لهم مصلحة في غرقها.

الأمر ليس هينا على الدولة الأردنية لتواجه كارثة اقتصادية خلّفها زلزال جائحة كورونا، وفي الاتجاه الآخر "محرقة سياسية" تقودها إسرائيل تلتهم الأخضر واليابس، وتضع البلاد في عين العاصفة، وتُهدد مصالحه الوطنية.

يقف الأردن وحيدا يقلع شوكه بيديه، اقتصاديا زمن المساعدات قد خبا وولى، وسياسيا إذا ما مضت إسرائيل بقيادة رئيس حكومتها بنيامين نتانياهو بضم الأراضي الفلسطينية وغور الأردن؛ فإن عملية السلام وأدت إلى غير رجعة.

الأردن الذي يقف على أطراف أصابعه، بانتظار قرارات الحكومة الإسرائيلية بالضم، تنفس الصعداء بعد أن تباطأت إسرائيل بإجراءاتها، وهذا سمح لأصوات في الإعلام أن تتحدث عن انتصار للدبلوماسية الأردنية بإحباط قرارات التوسع الإسرائيلي بضم أراض جديدة، وهو ما دفع وزير البلاط الملكي ووزير الخارجية الأسبق مروان المعشر إلى التحذير بالقول "ليس تغيير نسبة الضم هو المهم، أو تأجيله، المهم أن يذكرنا أن إسرائيل مُصرة على دفن حل الدولتين".

كلام المعشر يكتسب أهميته ليس لأنه شخصية معارضة؛ وإنما لأنه كان أول سفير للأردن في تل أبيب، وسفيرا للملكة في واشنطن، ورأيه يأخذ وزنا سياسيا لمعرفته في خبايا السياسات الإسرائيلية ـ الأميركية.

اقتصاديا زمن المساعدات خبا وولى، وسياسيا إذا مضت إسرائيل بضم الأراضي فإن عملية السلام وأدت

المعشر بعد تصريحاته لموقع "الرأي اليوم" يُشير إلى هدف إسرائيل بالاستيلاء على أكبر حجم ممكن من الأراضي، وأقل عدد ممكن من السكان، مُعتبرا أن معارضة الأردن لهذه التغييرات وجودية بعكس دول أخرى.

يرى المعشر أن الأردن لا يمكن أن يقف مكتوف اليدين تجاه ما تُخطط له إسرائيل، ويصف عدم التصدي لذلك بـ "الانتحار السياسي".

ضم الأراضي الفلسطينية يُعزز المخاوف من أن تهجير الفلسطينيين إلى عمّان ليس أكثر من مسألة وقت، وأن خطة التهجير والترحيل موجودة على الأجندة الإسرائيلية التي تذهب باتجاه التطرف واليمين، ويقول المعشر "التهجير والترحيل للفلسطينيين لم يعد صعبا اليوم، فقد هُجّر 6 مليون سوري منهم مليون ونصف المليون في الأردن".

بعد حديث العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني لمجلة دير شبيغل الألمانية عن صدام مع إسرائيل إن أقدمت على عمليات الضم، تحركت عمّان بقيادة وزير الخارجية أيمن الصفدي للتحشيد الإقليمي والدولي ضد التوجهات الإسرائيلية دون اشتباك كلامي، لكن الصمت عن المعارك الرسمية لم يمنع الشارع من التحرك، ولم يمنع من تصعيد الاحتجاجات للوقوف أمام السفارة الأميركية بعمّان، أو تنظيم "سلسة بشرية" أمام الجامعة الأردنية استنكارا للخطط الإسرائيلية.

الحكومة تبعث إشارات لخصومها أنها قادرة على قيادة السفينة دون أن تغرق

وسط حالة الرفض الشعبي العارم، خرج رئيس الوزراء الأسبق فايز الطراونة في حديث مع قناة رؤيا ليغرد خارج السرب أو هكذا فهم الناس موقفه، ولم يسلم حديثه من انتقادات لاذعة حين اعتبر "قرار الضم لا يُشكل خطرا على الأردن"، وسعى للاستهانة وتبسيط القضية بقوله باللهجة العامية "كبرها بتكبر، وصغرها بتصغر".

وأتبع هذا الكلام بالتأكيد أن "لا ضم لغور الأردن، وإنما للغور الفلسطيني"، متسائلا "شو دخل الأردن، فهم لن يضموا أراضيه، والحدود مع إسرائيل حُددت بمعاهدة السلام".

الرد الأقسى والمباشر على الطراونة جاء من الكاتب عريب الرنتاوي بمقالة مُنعت من النشر، ولكنه نشرها على صفحته في فيسبوك وتداولتها مواقع إلكترونية، وحملت عنوان "كبيرة يا دولة الرئيس"، مُذكرا إياه أن الضم يعني انهيار حل الدولتين، وفرص قيام دولة فلسطينية، وترك الوصاية الهاشمية لأنياب الاستيطان الإسرائيلي.

وخاطب الطروانة قائلا "هي كبيرة يا دولة الرئيس ولا حاجة لأحد لتكبيرها، فهي طعنة نجلاء لكل ثوابت الأردن ومصالحه في الحل النهائي".

استطلاع مركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الأردنية كشف أن إسرائيل وسياستها بضم غور الأردن وأراضِ فلسطينية يُعد برأي الشارع الأردني أكبر تهديد خارجي.

الاستطلاع الذي أنجز في أواخر الشهر الماضي لا يبدو مؤشرا خارج السياق، فرغم مرور أكثر من ربع قرن على توقيع معاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل، إلا أن كل محاولات التطبيع فشلت فشلا ذريعا، ومنذ أعوام العلاقات بين الدولتين جامدة، و"البرود" السياسي سيد الموقف.

حلفاء الأردن إما منشغلين عنها أو غير عابئين بها أو لهم مصلحة في غرقها

ديفيد بولوك الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يُشير في مقال له اعتمادا على استطلاع للرأي أن 68 بالمئة من الأردنيين قلقون من رغبة الإسرائيليين والأميركيين في تحويل الأردن إلى دولة فلسطينية بديلة.

والأهم في مقاله التلميح والغمز إلى أن هذا موقف عموم الأردنيين سواء كانوا "شرق أردنيين"، أو من "أصول فلسطينية".

لا يريد الأردن أن يجد نفسه في نهاية المشوار حارسا للاحتلال، وأن يُصبح العسكري أو الدبابة الأردنية في مواجهة "الشقيق الفلسطيني" بعد دفن وأبَّنَ نتانياهو كل ما قيل عن السلام والدولة الفلسطينية المُستقلة.

التهديدات الخارجية طغت على المشهد الأردني في الأيام الماضية، هذا الواقع المرعب والمقلق لم يُبعد مخاوف التداعيات الاقتصادية المُتفاقمة، يؤكد هذه الفرضية ذات استطلاع الرأي، حيث يرى الأردنيون أن الأمور لا تسير بالاتجاه الإيجابي، ويخشون من البطالة والفقر.

الحكومة التي تُلاحقها شائعات الرحيل تحاول بخلوة عقدتها قبل أيام لفريقها الوزاري إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وطمأنة الشارع إلى أنها تُسيطر على الوضع، وتبعث بإشارات لخصومها أنها ما زالت قادرة على قيادة السفينة دون أن تغرق.

سواء بقي عمر الرزاز رُبانا لسفينة الحكومة أو رحل؛ فإن اللعنة الإسرائيلية ستبقى كابوسا أزليا في ظل حكم نتانياهو، أو أي زعيم "يهودي" متطرف يتطلع لخارطة إسرائيل المزعومة توراتيا، أو تلك الوارد بعضها في أدبيات المسكونين بهواجس التوسع والسيطرة.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN)،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.