الشعبوية الهوجاء ظاهرة عامة لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات
الشعبوية الهوجاء ظاهرة عامة لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات

بقلم محمد المحمود/

منذ كتب الرائدان في مجاليهما: غوستاف لوبون وسيغموند فرويد، كتابيهما عن "سيكولوجية الجماهير"، تحول هذا المبحث ـ بصيغة أو بأخرى ـ إلى موضوع خصب لمقاربات كثيرة. قام باحثون من شتى ميادين المعرفة، لاسيما تلك الميادين المنتمية بالأصالة إلى حقل العلوم الإنسانية، كعلم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي والعلوم السياسية والإعلام، بالاهتمام بالموضوع، بل وامتد ذلك الاهتمام إلى الحقل الإبداعي في الآداب والفنون خاصة.

وعلى اختلاف طرائق الارتياد في كل حقل من هذه الحقول، بل وعلى اختلاف طبيعتها، فهي تكاد تجمع ـ في منطقها العام ـ على أن "الجماهيرية" حالة غير منضبطة، حالة تحكمها النزعات العاطفية الاندفاعية، وأنها تبتعد عن المنطق/ العقلانية/ التفكير الموضوعي؛ بمقدار ما تتضخم صفة الجماهيرية فيها. ولهذا، فالاستسلام لها يقود إلى كارثة إثر كارثة، كارثة عامة تتمدد في الزمان بمتواليات آثارها المدمرة التي قد تكتسح مستقبل أجيال وأجيال.

الإنسان الشعبوي يرفض "النقد الذاتي" الذي يضع الأنا على طاولة التشريح الموضوعي بدعوى أنه يرفض "جلد الذات"

​​لا ريب أن الجماهيرية/ الشعبوية الهوجاء ظاهرة عامة لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات. غير أنها في المجتمعات البدائية أو شبه البدائية، كما هو الحال في معظم دول العالم الثالث (وإليه ينتسب عالمنا العربي)، تتضخم، ويعظم أثرها، إلى درجة أنها تتسيد المشهد الاجتماعي، وقد تحكم المصير وتتحكم به في كثير من الأحيان. إنها قد تختفي لبعض الوقت من على سطح المشهد العلني، ولكن سرعان ما تظهر، ويطغى عنفوانها، وتعلن نفسها بكل وضوح وصراحة في المسارح الجماهيرية: الواقعية؛ كما في الميادين العامة، أو الافتراضية؛ كما في الإعلام الفضائي الجماهيري، وعضيده الشعبوي: وسائل التواصل الاجتماعي.

ما يختلف به عالمنا العربي عن العالم المتقدم في هذه الظاهرة/ الجماهيرية، هو أنها لدينا تستولي على الجماهير العامة/ الشعبية التي لا تتوفر إلا على النزر اليسير من الثقافة/ الوعي، وفي الوقت نفسه، تأخذ في طريقها الأغلبية الساحقة من المثقفين، بل ومن المفكرين؛ أو الذين يتصورون أنفسهم مفكرين!

اقرأ للكاتب أيضا: مفهوم الفن في المجتمع التقليدي

بينما نجدها في العالم المتقدم/ المتحضر تستولي ـ وبدرجة أقل مما هو واقع في العالم العربي ـ على الجماهير العريضة التي تقع فريسة بعض وسائل الإعلام الشعبوية أو شبه الشعبوية. وفي المقابل، ينجو أغلب المثقفين والمفكرين منها نتيجة تاريخ طويل من الاستقلال الفكري، بل وتاريخ طويل من تصور الريادة الثقافية على أنها خروج على السائد/ النمطي.

ثمة اختلاف ملحوظ، ففي العالم المتقدم، تجد في الأطروحات الثقافية/ الفكرية التي تتماس مع الهموم الجماهيرية ما يشكل خروجا عن الحس الجماهيري العام المأخوذ بالصخب الوجداني الذي يرافق طرح بعض القضايا ذات المنحى الديني أو الوطني/ القومي.

إن الاندفاعات الحماسية الجماهيرية الصاخبة في العالم العربي تظهر أشد ما تظهر في القضايا الدينية، أو في القضايا السياسية، خاصة تلك القضايا المرتبطة بالحس الوطني العام الذي بدأ يأخذ ـ إلى حد ما ـ مكان الحس القبائلي/ العشائري، أو هو يعززه ويتعزز به على نحو تفاعلي جدلي.

فقضية دينية هامشية، ولكن ذات حساسية تاريخية أو عقائدية أو أخلاقية، كفيلة بأن تثير الملايين إلى درجة أن تفقدهم بديهيات التفكير المنطقي/ البحث العلمي. في مثل هذه القضايا الحساسة؛ تتحزب غوغائية جماهيرية لا يهمها أصل القضية ولا فصلها، بل كل ما يهمها مجرد الانتصار للفكرة ذات الطابع التمايزي، أو الانتصار للفرد الذي تجتمع معه في دائرة الانتماء الديني أو المذهبي أو غير ذلك من دوائر الانتماء التي يغذيها الحس العام/ المشترك، كما هو ظاهر في الموقف اليميني المناهض ـ بانفعال تعاضدي صاخب ـ للمهاجرين أو الوافدين، أو حتى للمغايرين/ المختلفين.

وإذا كان استشراء مثل هذا الحماس الجماهيري الغوغائي الموغل في التنرجس الذاتي غريبا، وفي الوقت نفسه حقيقا بأن يدان وينتقد وتفكك بناه العامة وآليات اشتغاله؛ فإن الأغرب والأحق بالإدانة هو إحجام كثير من المثقفين/ المفكرين عن التصدي له، ومواجهته بصراحة.

صحيح أن الطغيان الجماهيري مرعب؛ من حيث هو قادر على تمرير أشنع وأبشع التهم، بل وممارسة كثير من صور النبذ والإقصاء على أكثر من مستوى اجتماعي، لكن من الصحيح أيضا أن دور المثقف/ المفكر ليس التماهي مع المجتمع بكل ما فيه من عيوب وتشوهات وعواطف هوجاء، بل على العكس، دوره الأهم يكمن في مهمة تشخيص الأدواء المجتمعية من حيث تشكلها الأولي في بنية الوعي العام.

عموما، إذا كانت ظاهرة "المثقف الجبان" في موقفه من الجماهيرية الشعبوية تكاد تكون هي واجهة المشهد الثقافي/ الفكري في العالم العربي؛ فإن الساحة لا تخلو من بعض الأصوات الاستثنائية التي تمتلك شجاعة المواجهة مع الرعونة الجماهيرية الصادرة عن سذاجة عمياء.

لقد لفت انتباهي الصراحة الشديدة التي تحدث بها المؤرخ والمفكر التونسي/ هشام جعيط عن العواطف الجماهيرية وغوغائيتها المنفلتة، خاصة عندما أشار إلى الأنظمة الكليانية العربية المتعسكرة التي حكمت بعد الاستقلال وعلاقتها بالثقافة وتشكلاتها. فقد أكد على أنها قد "اختلقت قضايا كبرى التفت حولها الجماهير، والجماهير غبية وسريعة التصديق تنجر إلى الحماس الفارغ كالصبيان"، مبينا أن هذا الوضع المزري الذي تم فيه استغلال الجماهير من قبل الحكومات الانقلابية/ الثورية هو أحد أهم الأسباب التي تقف خلف غياب الفكر العميق على جميع المستويات، مما نجم عنه تسطح الرأي العام العربي الذي بات "لا يقيم وزنا لهذا المثقف أو ذاك بسبب أعماله، وإنما فقط عندما يصدع برأي سياسي يستحبه الجميع، ولا يجسرون على إبدائه" (أزمة الثقافة الإسلامية ص 39،40).

إن أخطر ما في هذا الحماس الشعبوي أنه يقوم بتعطيل أهم الآليات العقلية القادرة على تحقيق التجاوز النوعي للحالة الراهنة

​​طبعا، لا يقف هشام جعيط وحيدا في صراحته التي تدين هذه الغوغائية الجماهيرية ذات الحماس النزق، بل كثيرا ما اشتكى المفكرون المتميزون من هذه الجماهيرية، بل وحذروا من خطر توظيفها في التحشيد غير المسؤول للمشاريع القومية والأصولية. فهذا المفكر الجزائري/ محمد أركون يحذر منها ويصفها بـ"الشعبوية"، التي تتعمد الضرب على أوتار الوجدانيات العامة لتغييب العقول. يقول أركون: "قلنا شعبوية؛ لأنها تجيش الشعب عن طرائق الغرائز والعواطف والعصبيات، فلا يعود يفكر بعقله تقريبا. نقول ذلك وبخاصة أن التزايد السكاني الهائل قد زاد من ضخامة الظاهرة الشعبوية التي جيشها الأصوليون" (قضايا في نقد العقل الديني، ص 175).

اقرأ للكاتب أيضا: بين الإسلام السياسي والعلمانية

إن أخطر ما في هذا الحماس الجماهيري/ الشعبوي أنه يقوم بتعطيل أهم الآليات الفكرية/ العقلية القادرة على تحقيق التجاوز النوعي للحالة الراهنة. أقصد بذلك: آلية النقد الذاتي. فلا تقدم ولا تطور دون نقد ذاتي مفتوح، وبلا حدود؛ كي يمارس تشخيص أدواء الأنا، لا في راهنها فحسب، وإنما في كل مراحلها منذ بداية تشكلها، أي منذ بدايات التشكل التي صنعت ـ ولا تزال تصنع ـ عالم الوعي الراهن للأنا. الحماس الجماهيري المتنرجس لن يسمح بمثل هذا النقد، ولن يتسامح معه إن وجد، بل سيسعى لمحاصرته بشتى الوسائل، من غير أن يصرح بأنه ضد "النقد الذاتي" (هذا النقد الذي لم يعد يخفى على أحد أنه أصبح شرطا لأية فعالية تقدمية/ تطورية). إنه سيقف ضده وسيتصدى له على نحو مراوغ، ولكن في خداع مكشوف بات يتخفى تحت شعارات شعبوية تزعم أنها لا ترفض "نقد الذات"، بل ترفض فقط: "جلد الذات!".

إذن، الإنسان التقليدي/ الجماهيري/ الشعبوي يرفض "النقد الذاتي" الذي يضع الأنا على طاولة التشريح الموضوعي/ العقلاني بدعوى أنه يرفض "جلد الذات". إنه ينتشي بما يداعب أحلامه الساذجة ولو كانت أوهاما، ويرفض كل ما يضعه في مواجهة صريحة مع بؤسه الذاتي وإذا كان لا يستطيع أن يرفض آليات التشخيص صراحة؛ فإنه يتعمد المغالطة الصريحة: الهروب من نقد الذات بدعوى رفض جلد الذات. إنها دعوى مفضوحة؛ لأن واقع هذا الجماهيري/ الشعبوي يحكي بوضوح أنه لا يمارس على ذاته أي نوع من أنواع النقد الحقيقي؛ حتى يمكن تصديق دعواه بأنه فعلا يفصل بين ممارستين مختلفتين: "نقد الذات" ـ "جلد الذات"، بحيث يقبل إحداهما ويرفض الأخرى.

إن الجماهيري التقليدي هو أولا، يرفض النقد الذاتي في أعمق أعماقه، وهو ثانيا، لا يعي حقيقة الفرق بين نقد الذات وجلد الذات؛ لأنه لم يشتغل على أي منهما أصلا، وهو ثالثا، لا يعي أن هناك نوعا من العلاقة الضرورية بينهما، وأن كل نقد ذاتي ينطوي بالضرورة على نوع من جلد الذات، كما أن جلد الذات ينطوي بالضرورة على سلوكيات معرفية تنتمي إلى حقل النقد الذاتي. وهو رابعا، مهموم بـ(ستر الذات) و(تبجيل الذات) بل و(تقديس الذات)؛ كما يحكي ذلك واقعه البائس.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

مثل هذه الملاحظات تحفزنا على التفكير في علاقات الطوائف بلبنان وفيما بينها
مثل هذه الملاحظات تحفزنا على التفكير في علاقات الطوائف بلبنان وفيما بينها

في جلسة نقاش عن تحديات الوضع في لبنان في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية، ضمن مجموعة ممن يسعون إلى استعادة الدولة اللبنانية لسيادتها واستقلالها للخروج من دوامة الفساد التي اُغرق فيها اللبنانيون في ظل السلاح غير الشرعي؛ فوجئت بأحد المشاركين يستهل مداخلته بالمسلّمة التالية: "إن لبنان انوجد من أجل المسيحيين". ولم يعترض احداً.

لست هنا في معرض العودة إلى مرحلة التأسيس الأولى لتبيان صحة أو خطر هذا الاعتقاد الراسخ عند البعض. لا شك أن الظروف جعلت الغلبة للمسيحيين بسبب محاباة الاحتلال الفرنسي لهم وتسليمهم المقادير الأساسية في الجمهورية الناشئة، لأن ذلك يناسب مصالح فرنسا. بينما دعمت انكلترا الدروز والمسلمين عموماً ضد فرنسا.

لكن من يقبل المنطق القائل إن الفرنسيين قدموا لبنان هدية للمسيحيين، يبدو لي معها من المنطقي أن يقبل أن تنقله فرنسا الآن إلى الطرف الشيعي لأن هذا يناسب مصالحها الاقتصادية حالياً!

لكن على من يريد أن يبني وطناً أن يرفض هذا المنطق التمييزي والقريب من العنصرية والمثير للخلاف، والمؤجج للنزاعات التي تطفح بها مواقع التواصل.

يبقى السؤال لماذا يحرص بعض المسيحيين على تكرار هذا الاعتقاد الذي ينسف محاولة بناء دولة مواطنة تحصر مهمتها ببناء لبنان لكل أبنائه بشكل عادل ودون تمييز؟ خصوصاً أن ثورة 17 اكتوبر بينت أن خيار غالبية اللبنانيين، خصوصاً الشباب منهم، بناء دولة مواطنة ومساواة في الحقوق والواجبات خارج النطاق المذهبي والطائفي الذي لم يحسن استخدامه سوى العصابة الممسكة بمقادير لبنان واللبنانيين. فاحتكرت تمثيلهم وصادرت حقوقهم ووزعتها حصصاً بينها.

إن مثل هذه الملاحظات تحفزنا على التفكير في علاقات الطوائف بلبنان وفيما بينها.

بمناسبة توقيع روايتها "فيكتوريا" في بيروت، وأحداثها تدور في البيئة القبطية وتعالج معاناتها، أشارت كارولين كامل إلى أن أبناء الجيل القديم من أقباط مصر كانوا يستخدمون أسماء محايدة لأبنائهم، بينما صاروا يسمونهم الآن بالأسماء المسيحية الخالصة.

ذكّرني ذلك بمسلمي فرنسا وتحركاتهم الاعتراضية منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. قبل ذلك لم يكن مسلمو شمال أفريقيا المهاجرين إلى فرنسا، لتلبية حاجتها لليد العاملة الرخيصة، يثيرون أي انتباه. لأنهم سعوا للاندماج التام والاختفاء في المجتمع الفرنسي. لكن شعور الأجيال المولودة في فرنسا، وتعتبر نفسها فرنيسة، بالتمييز ضدها وإحساسها بالدونية، جعلهم يحرصون على إظهار اختلافهم، عبر الحجاب أو اللحى وغيرها، للتخلص من اللاتمايز الذي يهدّد هوياتهم المركبة.

يمكن تطبيق هذه الواقعة السوسيولوجية على مجتمعاتنا خلال فترة حكم السلطنة العثمانية، ربما استطعنا عندها فهماً أفضل لسلوك المسيحيين منذ حقبة إنشاء دولة لبنان الكبير. كما فهم سلوك الشيعة منذ الستينيات وحتى الآن.

بالرغم من حقيقة أن الفتح الإسلامي (البعض صار يجرؤ على تسميته بالغزو) لم يستخدم العنف المجاني ضد المؤمنين من الديانات الكبرى، وكان متسامحاً مع أبنائها بمقاييس تلك الأزمنة. إلا أن الخلفاء العثمانيين مارسوا في فترات معينة التمييز والتهميش والقمع والتحقير تجاه الأقليات الدينية والمذهبية المختلفة عن المذاهب الأكثرية السنية التي يعتنقونها. فاضطهد المسيحيين والشيعة.

في مرحلة أفول الخلافة العثمانية وبروز الغرب كقوة رأسمالية وتجارية وعسكرية غازية، اعتمد الغرب في إضعاف الرجل المريض على الأقليات، وخصوصاً المسيحية التي ساهمت في استنهاض الشعور القومي العربي بوجه التتريك. وكان موارنة لبنان من كبار المساهمين في ذلك؛ بما أن الإرساليات كانت قد دعمت تعليم المسيحيين وهيأت كوادر تنويرية، ما سهّل لهم استلام دفة الأمور عندما حان وقت إقامة الدولة.

وهكذا تمكنت المارونية السياسية من الحكم بإشراف فرنسي عند إنشاء لبنان الكبير، لكن بمشاركة الطوائف الأخرى. لكن هذا التمييز لصالحهم لا يعني أن لبنان أنشئ من أجلهم.

لست في معرض دراسة تاريخية، لكن ما أود الاشارة إليه وجود تشابه في الخطوط العريضة لسيرورة الأقليات عموماً في علاقتها بالسلطة. من مسيحيي لبنان وشيعته الى أقباط مصر، أو مسلمي فرنسا، أو الأكراد أو أي أقلية أخرى، لجهة التمسك بالهوية المهدّدة.

لقد تعرّض المسيحيون للقمع والاضطهاد وأقاموا كنائسهم في المغاور، التي لا تزال شاهدة، خلال فترات من الحكم العثماني. لذا من البديهي أن يتمسكوا بطقوسهم الدينية ويمارسونها بإلحاح هجاسي لتأكيد وحفظ هويتهم المجروحة. فجعلوا وجودهم يدور حولها. كالعمادة والقداديس والتناول والاعتراف والشفعاء والاحتفالات بأعياد القديسين (ويقال إنهم بعدد أيام السنة) والأسماء وغيرها.

في صراع الهويات، كما يذكر أمين معلوف في كتابه "الهويات القاتلة"، من الطبيعي أن يتركز اهتمام الشخص في هذه الوضعيات على المكون المقموع ويتمحور حوله. فتتعرف الغالبية على نفسها بالانتماء الأكثر عرضة للتهجم وتتماهى معه بالضبط سواء تبنته علنا أو خفية. وهو قد يكون الدين أو اللون أو اللغة أو الطبقة. فيجتاح الهوية بأكملها.

وإذا أجرينا مقارنة مع البيئة المسلمة السنية في فترة ما بعد الاستقلال، نلاحظ استرخاء أكبر في ممارسة الطقوس الجماعية او التي تؤطر الفرد بشكل خاص. فالصلاة اليومية فردية، والأعياد عند المسلمين محدودة بعيدي الفطر والأضحى والمولد النبوي، وعدا عن الصلاة الجماعية يوم الجمعة وصوت الآذان للقريبين من المساجد، كانت الطقوس أقل حضوراً وتأطيراً؛ خصوصاً في المرحلة القومية قبل ظهور الاسلام السياسي. وهذا ما يطبع سلوك الأكثريات المرتاحة الى وضعها بشكل عام، فلا تقلق على هويتها.

أما الشيعة فتأخروا عن الموارنة في الاستفاقة على تهميشهم وعلى هويتهم "الجريحة" وبالتالي على التشدد في إظهارها. فإلى حين مجيء فؤاد شهاب والنهضة التي أحدثها في المجال التنموي والتربوي للمناطق وانعكست إيجابياً عليهم، فعممت المدارس وأنشئ المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى، لم يكونوا مرئيين بوضوح.

حصل تنافس بين اليسار وبين تيار موسى الصدر في البداية فأنشأ حركة المحرومين. لكن الحرب الأهلية وإخفاء الصدر جعلت تياره يقطف ثمار الإصلاح الشهابي. ثم ورثته إيران منذ بداية الثمانينات بعد إخفائه قسراً.

حرص حزب الله، بدعم وتمويل إيرانيين، على توفير شروط التفاف الشيعة حوله عبر الخدمات المتنوعة كإنشاء مؤسسات من كل نوع: ثقافية وصحية وتربوية ورياضية وكشفية وترفيهية وخصوصاً دينية وعسكرية. وهذه الاخيرة عملت على إرساء ممارسات وتقاليد مستجدة في الأوساط الشيعية التقليدية قلبت فيها العادات والتقاليد وجعلت من الممارسات الايرانية - الفارسية مرجعها الوحيد في الحياة والآخرة.

وصار إظهار الاختلاف عند الشيعة مصدر فخر، وأصبحت الهوية المذهبية محور وجود غالبية الشيعة، وأصبح لديهم مناسبات وأعياد تتفوق على ما لدى المسيحيين.

وهكذا تهيأت جميع الظروف لتركيب حلف الأقليات برعاية سورية بمواجهة السنة الذين تمت شيطنتهم ووسمهم بالقابلية للدعشنة. التهمة التي لم تثبت حتى الآن، وهذا الحلف كان أحد أعمدة الانهيار. فإلى متى هذا الاصطفاف وإلى أين؟