ينعطف الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان في أكثر من ملف، على صعيد علاقاته مع الدول التي كانت تصنف ضمن قائمة "الخصوم" سابقا، وبينما وصل الاثنين إلى الإمارات في زيارة هي الأولى من نوعها منذ 2013، من المقرر أن يلتقي الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ في العاصمة أنقرة، مارس المقبل.
ويربط مراقبون، تحدث إليهم موقع "الحرة"، هذه الخطوات "اللافتة" بمحددات خارجية وعلى مستوى الإقليم، ولا يفصلوها أيضا عما تعيشه تركيا في الوقت الحالي، خاصة فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي والمعيشي، فضلا عن الاستعدادت التي يتم اتخاذها بشأن الانتخابات الرئاسية في 2023.
وقبل سفره إلى أبو ظبي، صباح الاثنين، قال إردوغان، في مؤتمر صحفي، إن "الإمارات من أبرز الشركاء التجاريين لتركيا، وإن حجم تبادلنا التجاري معها بلغ 8 مليارات دولار".
وأضاف: "نهدف لإحراز تقدم في علاقاتنا بمجالات عديدة، من النقل إلى التكنولوجيا، ومن الصناعات الدفاعية إلى الصحة والزراعة والثقافة والتعليم".
وسبق ذلك بأسابيع إعلانه أن الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، قد يجري زيارة إلى تركيا، مشيرا في تعليقه على احتمال التعاون مع إسرائيل شرقي المتوسط بقوله: "إنهم يهدفون إلى إحراز تقدم عبر مقاربات إيجابية. أنقرة ستبذل ما بوسعها إذا كان هذا الأمر قائما على أساس الربح المتبادل".
وهنا تطرح تساؤلات عن دوافع هذه الانعطافة التي يسير فيها الرئيس التركي؟ وما إذا كانت ترتبط بمحددات داخلية فقط، أم أنها تنطبق أيضا على الطرف المقابل الذي تمضي من خلاله المعادلة الجديدة؟
"الاقتصاد في المقدمة"
خلال زيارة ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، قبل أشهر إلى أنقرة، وصولا إلى زيارة إردوغان إلى العاصمة الإماراتية تصدّر حديث الاقتصاد والاتفاقيات على كامل مشهد عودة العلاقة بين البلدين.
وبينما أعلن عن توقيع عشر اتفاقيات خلال الزيارة الأولى، من المقرر أن يوقع إردوغان 12 اتفاقية في زيارته الحالية، تصب في غالبيتها في المسار الاقتصادي، وتعزيز حجم التبادل التجاري.
ويعتبر الباحث المختص بالشأن السياسي التركي، محمود علوش، أن "العامل الاقتصادي يلعب دورا مهما في تشكيل السياسة الخارجية لتركيا في الوقت الحالي".
ويقول الباحث لموقع "الحرة": "تركيا مقبلة على انتخابات رئاسية وبرلمانية بعد عام وبضعة أشهر. أحد المشكلات المهمة هي الوضع الاقتصادي، ويعتقد إردوغان أن إصلاح العلاقات مع دول الإقليمية وإعادة جذب الاستثمارات الإماراتية من الممكن أن تساعد حكومته في تحسين الوضع الاقتصادي قبل الانتخابات".
ومنذ مطلع العام الماضي تدهور قيمة الليرة التركية إلى مستويات قياسية في سوق العملات الأجنبية، وبينما تمكن المصرف المركزي التركي من ضبط هذا التدهور مع بداية العام الجديد، خرجت عقبة أخرى، بعد الكشف عن مستويات قياسية أخرى للتضخم في البلاد.
وتشير البيانات، التي نشرها "معهد الإحصاء التركي"، إلى أن أسعار الاستهلاك في تركيا ارتفعت بنسبة 48.69 بالمئة على أساس سنوي في يناير الماضي، في أعلى رقم يسجل منذ أبريل 2002، وهو العام الذي وصل فيه "حزب العدالة والتنمية" إلى حكم البلاد.
ويؤكد علوش أن "الاقتصاد يلعب دورا مهم في السياسة الخارجية لإردوغان"، مشيرا إلى عوامل أخرى أيضا، منها تلك التي ترتبط بمصالح أنقرة في قضايا وملفات أخرى، كشرق المتوسط مثلا.
وبخصوص شرق المتوسط يلعب إصلاح علاقات أنقرة مع إسرائيل دورا بارزا فيه، وبحسب الباحث: "الدافع الرئيسي لتركيا للتقارب مع إسرائيل ومصر هو محاولاتها الخروج من العزلة من قبل تحالف مناهض لها".
وزاد: "هذا يشكل دافع رئيسي في السياسة الخارجية، وهو الخروج من العزلة، ولعب دور أكبر في المنطقة".
"نقطتان"
وفي غضون ذلك يقرأ الباحث السياسي التركي، إسلام أوزكان دوافع إردوغان للتقارب أكثر مع الإمارات على أنها تتعلق بنقطتين، الأولى هي الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تركيا منذ فترة طويلة.
ويقول أوزكان لموقع "الحرة": "هناك مأزق كبير وإردوغان يريد التخلص منه وتقديم حلول له. تركيا في الوقت الحالي بحاجة للمال والاستثمارات الخليجية. هذا واضح جدا".
أما النقطة الثانية، فيشير الباحث إلى أنها تتعلق بـ"زعيم المافيا"، سادات بكر، بحسب رأيه، والذي كان قد خرج بسلسلة تسجيلات مصورة من الإمارات، بحسب ما قال فيها.
وفي هذه التسجيلات تحدث بكر عن حوادث وقضايا فساد تتعلق بشخصيات مسؤولة في الحزب الحاكم في تركيا، وأخرى كانت في الحكومة في وقت سابق.
ويتابع الباحث: "تركيا تريد استعادة هذا الرجل المهم جدا، لا سيما أن حديثه قد يؤثر على الوضع العام للحزب الحاكم، قبيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، العام المقبل"، مرجحا أن "يتناول الرئيس التركي هذا الأمر مع ولي عهد الإمارات خلال الزيارة".
"طريق مسدود"
منذ مطلع 2021 ، طرأت عدة تغيرات على صعيد السياسة الخارجية لتركيا، وهو ما أكده مسؤولون رفيعي المستوى، من بينهم وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، بقوله في تصريحات متلفزة: "العالم يتغير بسرعة. مجال السياسة الخارجية يتغير بسرعة. في مواجهة هذه التطورات هناك حاجة لتغييرات في السياسة الخارجية".
وأضاف: "يجب أن نكون رواد أعمال، ويجب أن نجد حلولا للنزاعات. يجب أن تكون تركيا وسيطا. تعود نجاحاتنا في الوساطة إلى نهجه الصادق والمتوازن".
وتحدث الباحث محمود علوش عن عدة عوامل تساهم في "الديناميكية الجديدة القائمة" إلى جانب ما تم ذكره سابقا.
ويوضح ذلك بالقول: "خلال العقد الماضي وصل التنافس الخليجي التركي إلى طريق مسدود. لم يستطيع أي طرف أن يهزم طرف آخر، وهذا التنافس فسح المجال أمام قوى أخرى للعب دور أكبر، مثل إيران".
ويقول علوش: "هناك عامل آخر يرتبط بتراجع الدور الأميركي في الشرق الأوسط، وانتقال التنافس بين القوى الدولية إلى مناطق أخرى. مثل أوروبا الشرقية، والصراع الصيني الأميركي في آسيا".
ويضيف الباحث أن تراجع التنافس الدولي في الشرق الأوسط أفسح المجال للقوى الإقليمية للعب دور أكبر في إعادة تشكيل المنطقة، وهو ما حصل بخصوص تركيا وعلاقاتها مع الدول الأخرى، مشيرا إلى أن "تركيا فرضت نفسها خلال العام الماضي، وبذلك فإن التعامل الإقليمي الذي بدأته من الممكن أن يحل الخلافات".
"أبعد من الاقتصاد"
بدوره يرى الباحث السياسي التركي، مهند حافظ أوغلو أن ما يحصل لا يمكن أن يمكن وصفه بـ"تصفير المشاكل"، بل هو خطوات لـ"تخفيف الصراعات أو كسر الجمود في العلاقة الثنائية".
ويقول حافظ أوغلو لموقع "الحرة": "هذا ما ينطبق مع تركيا وعلاقاتها مع عواصم عربية وإقليمية"، مضيفا: "عندما تكون الرياح شديدة فيجب أن تنخفض. هذه السياسة التي تسير فيها تركيا سواء باتجاه الإمارات أو دول أخرى، مثل إسرائيل".
وبينما يشير الباحث إلى أن "البوابة الاقتصادية" هي الأهم بخصوص ما تسير به تركيا الآن، إلا أن ذلك "ليس الوحيد. هناك شيء أبعد من الاقتصاد"، بحسب تعبيره.
ويوضح حافظ أوغلو أن "هناك حقبة إقليمية جديدة باتت تتشكل من ثلاثي تركيا ودول الخليج وإسرائيل، من المنتظر أن تتوسع دائرتها لتصبح تكتلا جديدا".
ويضيف: "تركيا تتجهز لانتخابات بعد عام وأربعة أشهر، وعليها أن تحسّن علاقاتها الخارجية وأن تريح المواطن التركي من خلال العلاقات والاتفاقيات، لأن المواطن في ما يهمه لقمة عيشه والاقتصاد المباشر اليومي الذي يعيشه".
وبموازاة ذلك يشير حافظ أوغلو إلى التقلبات الحاصلة في الشرق والغرب، والتصارع والتحارب، معتبرا أن "تركيا والدول العربية ترى نفسها في المنتصف، ولذلك لزاما عليها أن تكون متقاربة، كي تبعد الخسارة السياسية والاقتصادية وغير ذلك..".