في أحاديث الكثير من السياسيين تستحضر نماذج عن دولة نجحت في تحقيق التنمية والتطور واستطاعت تجاوز آثار الحروب الأهلية وتمكنت من بناء دولة قوية. لكن استحضار هذه النماذج يبدو أنه يشابه جلسات ليالي السمر، وليس لبحث أمكانية تطبيق تلك التجارب الناجحة في العراق، لأنهم في واقع الحال يضعون أمام أعينهم تجربتين فقط لا غير؛ تجربة استلاب الدولة في لبنان، وتجربة اليمن في الصراع على الحكومة وإثبات عدم شرعيتها والتمرد عليها برفع السلاح. وهناك في العراق من يسعى جاهدا إلى استنساخ التجربتين.
لا يمكن أن نوجه اللوم على قوى اللادولة عندما تفكر بالاستعلاء أو التمرد على الدولة ومؤسساتها؛ لأن سهام الانتقاد يجب أن توجه وبقوة إلى الحكومات التي تتخلى عن وظيفتها في فرض هيبة الدولة! ولا يمكن أن نطالب القوى التي تعلن تمردها على الدولة بأن تكون خاضعة لها بمحض إرادتها. ومن ثم، ما يحدث في العراق من غياب الأمن وتخاذل الحكومات عن القيام بمهامها ومسؤوليتها الأمنية، حتما تكون نتيجته تغول قوى اللادولة وسيطرة قوى السلاح المنفلت على تفاصيل الحياة العامة.
في الأيام الماضية كانت محافظة ميسان، جنوبي العراق، نموذجا واضحا لتداعيات غياب الدولة وفضيحة عدم فاعلية المؤسسات الأمنية الرسمية التي يفترض أنها تحمل شعار الدولة، لكنها تثبت أن انتشارها في الدوائر الرسمية والشوارع ما هو إلا حضور شكلي إن لم تكن هي خاضعة لسيطرة قوى اللادولة. ففي أسبوع واحد تكررت حوادث الاغتيالات لشخصية برتبة أمنية رفيعة بدعوى علاقته مع أحد الفصائل المسلحة وخلافه مع فصيل مسلح آخر. واغتيال قاض في محكمة مختصة بقضايا المخدرات. لتتكرر بعدها حوادث الاغتيالات المتبادلة بين أفراد الجماعات المليشياوية، ودخول العشائر طرفا في الصراع.
قد يكون غياب الدولة في ميسان نموذجا لتخاذل الحكومات السابقة عن فرض سيطرتها على النزاعات والصراعات بين قوى اللادولة في أغلب محافظات العراق، لكن الانفلات الأمني في المحافظات الجنوبية قد وصل إلى مرحلة خطيرة جدا، وباتت هذه المحافظات ساحة لِلصراع على السلطة والنفوذ ليس بين المليشيات المسلحة فحسب، وإنما لسلاح العشائر المنفلت الذي بات حاضرا في النزاعات ويستخدم في استعراض القوة في المناسبات الاجتماعية، بالإضافة إلى سلاح مافيات تهريب المخدرات التي تحتمي بعناوين جماعات سياسية وعناوين عشائرية وفصائل مسلحة.
ومن كان يحذر من وجود مؤامرة لاقتتال شيعي- شيعي هو اليوم طرف رئيس في تصاعد وتيرة الصراع المسلح في مدن محافظة ميسان، وما هذه المحافظة إلا نموذج للتنافس على النفوذ الذي يريد أن يفرض نفسه بقوة السلاح الخارج عن القانون، وهو تجسيد حقيقي لمخاطر ثنائية السلاح والسياسية. لأن القوى التي تخسر حظوظها في التنافس الانتخابي تريد تعويض الخسارة بقوة سلاحها لتضمن بقائها في دائرة السلطة.
وما دامت الدولة تغط في سبات ونوم عميق، فالفرصة متاحة لقوى اللادولة لتحول جنوب العراق إلى ساحة لتصفية حسابات سياسية. وشهوة الهيمنة والاحتكار والانتقام تكاد تكون محركا أساسيا لسلوك زعامات قوى اللادولة، التي ترفض التنازل عن غنائمها من ريع الدولة ومؤسساتها التي تحولت إلى إقطاعيات يتقاسمها حاشية زعماء المافيات السياسية.
معركة السلطة والنفوذ لا تتورع في دماء أبناء الجنوب والوسط الذين دفعوا ثمن الفشل والفساد والفوضى طوال السنوات الماضية من دمائهم وثرواتهم، ولا تخجل حتى من تكرار نظرية التآمر على أبناء تلك المحافظات. لكنها لا تريد الاعتراف أن الموضوع ليس استهدافا ولا مؤامرة، بل هو اقتتال بين القوى التي تريد أن تفرض شرعية وجودها بقوة السلاح المنفلت، سواء أكانت تريد تعزيز قوتها وسطوتها السياسية، أو تعويض خسارة حضورها السياسي.
الدولة في العراق غالبا ما تكون في أضعف حالاتها في فترة ما بعد الانتخابات، فالحكومات تضيف إلى ضعفها وعجزها عن الحفاظ على هيبة الدولة، تكون في هذه الفترة أكثرا تراخيا؛ لأن الحكومة بأكملها تكون محكومة بهاجس ورغبة تجديد ولايتها، وفي سبيل ذلك يرتضي القائمون على إدارتها الانسحاب والتخلي عن المهام الرئيسة لها في هذه الفترة الانتقالية حتى يتجنبوا الصدام مع قوى السياسية خوفا من غضب الزعيم السياسي الفلاني على رئيس الحكومة والوزراء، ويكون معارضا للحصول على ولاية ثانية!
الصراع بين قوى اللادولة كان يجري تحت غطاء التوافق على تقاسم السلطة والنفوذ السياسي، لأنه صراع ذو طبيعة معقدة ومركبة فهو يجري تحت عناوين التنافس السياسي ويريد أن يفرض نفسه بقوة السلاح. وهنا تتداخل رمزيات يراد لها أن تفرض شرعية وجودها بحكم الأمر الواقع على النظام السياسي والمجتمع. وعندما تختل الحجوم السياسية يكون خيار الذهاب نحو الصدام المسلح حاضرا بقوة، وهذا ما حدث في مدينة العمارة.
والخطيئة الكبرى هي خطيئة الحكومة التي ترتضي لنفسها أن تلعب دور الحكم في حلبة الصراع بين قوى اللادولة، لأن تراجعها وتخاذلها عن كبح جماح التمرد على الدولة وتهديد أمن المجتمع يجعلها تراهن على كسب رضا أطراف اللادولة وتخسر ثقة المجتمع بها، وهذا الرهان يعني خسارة لكل محاولات استعادة الدولة ونفوذها وسطوتها من مخالب غول الجماعات المسلحة ومافيات السياسة وقوى ما قبل الدولة.