This aerial veiw shows people deploying a large national flag and placing fake coffins in front of the fire-ravaged coronavirus…
غياب الدولة في ميسان نموذجا لتخاذل الحكومات السابقة عن فرض سيطرتها

في أحاديث الكثير من السياسيين تستحضر نماذج عن دولة نجحت في تحقيق التنمية والتطور واستطاعت تجاوز آثار الحروب الأهلية وتمكنت من بناء دولة قوية. لكن استحضار هذه النماذج يبدو أنه يشابه جلسات ليالي السمر، وليس لبحث أمكانية تطبيق تلك التجارب الناجحة في العراق، لأنهم في واقع الحال يضعون أمام أعينهم تجربتين فقط لا غير؛ تجربة استلاب الدولة في لبنان، وتجربة اليمن في الصراع على الحكومة وإثبات عدم شرعيتها والتمرد عليها برفع السلاح. وهناك في العراق من يسعى جاهدا إلى استنساخ التجربتين.

لا يمكن أن نوجه اللوم على قوى اللادولة عندما تفكر بالاستعلاء أو التمرد على الدولة ومؤسساتها؛ لأن سهام الانتقاد يجب أن توجه وبقوة إلى الحكومات التي تتخلى عن وظيفتها في فرض هيبة الدولة! ولا يمكن أن نطالب القوى التي تعلن تمردها على الدولة بأن تكون خاضعة لها بمحض إرادتها. ومن ثم، ما يحدث في العراق من غياب الأمن وتخاذل الحكومات عن القيام بمهامها ومسؤوليتها الأمنية، حتما تكون نتيجته تغول قوى اللادولة وسيطرة قوى السلاح المنفلت على تفاصيل الحياة العامة.

في الأيام الماضية كانت محافظة ميسان، جنوبي العراق، نموذجا واضحا لتداعيات غياب الدولة وفضيحة عدم فاعلية المؤسسات الأمنية الرسمية التي يفترض أنها تحمل شعار الدولة، لكنها تثبت أن انتشارها في الدوائر الرسمية والشوارع ما هو إلا حضور شكلي إن لم تكن هي خاضعة لسيطرة قوى اللادولة. ففي أسبوع واحد تكررت حوادث الاغتيالات لشخصية برتبة أمنية رفيعة بدعوى علاقته مع أحد الفصائل المسلحة وخلافه مع فصيل مسلح آخر. واغتيال قاض في محكمة مختصة بقضايا المخدرات. لتتكرر بعدها حوادث الاغتيالات المتبادلة بين أفراد الجماعات المليشياوية، ودخول العشائر طرفا في الصراع.

قد يكون غياب الدولة في ميسان نموذجا لتخاذل الحكومات السابقة عن فرض سيطرتها على النزاعات والصراعات بين قوى اللادولة في أغلب محافظات العراق، لكن الانفلات الأمني في المحافظات الجنوبية قد وصل إلى مرحلة خطيرة جدا، وباتت هذه المحافظات ساحة لِلصراع على السلطة والنفوذ ليس بين المليشيات المسلحة فحسب، وإنما لسلاح العشائر المنفلت الذي بات حاضرا في النزاعات ويستخدم في استعراض القوة في المناسبات الاجتماعية، بالإضافة إلى سلاح مافيات تهريب المخدرات التي تحتمي بعناوين جماعات سياسية وعناوين عشائرية وفصائل مسلحة.

ومن كان يحذر من وجود مؤامرة لاقتتال شيعي- شيعي هو اليوم طرف رئيس في تصاعد وتيرة الصراع المسلح في مدن محافظة ميسان، وما هذه المحافظة إلا نموذج للتنافس على النفوذ الذي يريد أن يفرض نفسه بقوة السلاح الخارج عن القانون، وهو تجسيد حقيقي لمخاطر ثنائية السلاح والسياسية. لأن القوى التي تخسر حظوظها في التنافس الانتخابي تريد تعويض الخسارة بقوة سلاحها لتضمن بقائها في دائرة السلطة.

وما دامت الدولة تغط في سبات ونوم عميق، فالفرصة متاحة لقوى اللادولة لتحول جنوب العراق إلى ساحة لتصفية حسابات سياسية. وشهوة الهيمنة والاحتكار والانتقام تكاد تكون محركا أساسيا لسلوك زعامات قوى اللادولة، التي ترفض التنازل عن غنائمها من ريع الدولة ومؤسساتها التي تحولت إلى إقطاعيات يتقاسمها حاشية زعماء المافيات السياسية.

معركة السلطة والنفوذ لا تتورع في دماء أبناء الجنوب والوسط الذين دفعوا ثمن الفشل والفساد والفوضى طوال السنوات الماضية من دمائهم وثرواتهم، ولا تخجل حتى من تكرار نظرية التآمر على أبناء تلك المحافظات. لكنها لا تريد الاعتراف أن الموضوع ليس استهدافا ولا مؤامرة، بل هو اقتتال بين القوى التي تريد أن تفرض شرعية وجودها بقوة السلاح المنفلت، سواء أكانت تريد تعزيز قوتها وسطوتها السياسية، أو تعويض خسارة حضورها السياسي.

الدولة في العراق غالبا ما تكون في أضعف حالاتها في فترة ما بعد الانتخابات، فالحكومات تضيف إلى ضعفها وعجزها عن الحفاظ على هيبة الدولة، تكون في هذه الفترة أكثرا تراخيا؛ لأن الحكومة بأكملها تكون محكومة بهاجس ورغبة تجديد ولايتها، وفي سبيل ذلك يرتضي القائمون على إدارتها الانسحاب والتخلي عن المهام الرئيسة لها في هذه الفترة الانتقالية حتى يتجنبوا الصدام مع قوى السياسية خوفا من غضب الزعيم السياسي الفلاني على رئيس الحكومة والوزراء، ويكون معارضا للحصول على ولاية ثانية!

الصراع بين قوى اللادولة كان يجري تحت غطاء التوافق على تقاسم السلطة والنفوذ السياسي، لأنه صراع ذو طبيعة معقدة ومركبة فهو يجري تحت عناوين التنافس السياسي ويريد أن يفرض نفسه بقوة السلاح. وهنا تتداخل رمزيات يراد لها أن تفرض شرعية وجودها بحكم الأمر الواقع على النظام السياسي والمجتمع. وعندما تختل الحجوم السياسية يكون خيار الذهاب نحو الصدام المسلح حاضرا بقوة، وهذا ما حدث في مدينة العمارة.

والخطيئة الكبرى هي خطيئة الحكومة التي ترتضي لنفسها أن تلعب دور الحكم في حلبة الصراع بين قوى اللادولة، لأن تراجعها وتخاذلها عن كبح جماح التمرد على الدولة وتهديد أمن المجتمع يجعلها تراهن على كسب رضا أطراف اللادولة وتخسر ثقة المجتمع بها، وهذا الرهان يعني خسارة لكل محاولات استعادة الدولة ونفوذها وسطوتها من مخالب غول الجماعات المسلحة ومافيات السياسة وقوى ما قبل الدولة.

المزيد

إسقاط تمثال صدام
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.