محادثات جرت مؤخرا حول المصالحة الخليجية
محادثات جرت مؤخرا حول المصالحة الخليجية

النظرة للعلاقات السعودية – الإماراتية من علٍ، توحي بأن قيادتي البلدين، تقرآن من الكتاب ذاته، وأنهما تنخرطان في "حلف استراتيجي واحد"، وهي نظرة لها ما يعززها، فالبلدان خاضا حرباً ضروساً في اليمن وعليه، ولقد شكلا رأس حربة لما يُسمى بالتحالف العربي، قبل ستة أعوام... وهما فرضتا حصاراً على قطر، في إطار "رباعي عربي" ضمّ إلى جانبهما كلا من مصر والبحرين... ولطالما نظر البلدان إلى إيران بوصفها "العدو المشترك"، ولمواجهة هذا "التهديد"، أقام البلدان علاقات "خاصة ومتميزة" مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وشرعتا في "تطبيع" متفاوت المستويات والسرعات لعلاقاتهما مع إسرائيل... واشترك البلدان في النظر إلى تركيا بوصفها "تهديداً" إضافياً لأمن الممالك الخليجية، بالنظر لحلفها مع قطر، ودعمها لجماعات الإخوان المسلمين... إذن، ثمة مروحة واسعة من التفاهمات، شكلت أرضية صلبة لسياستيهما الخارجية والأمنية-الدفاعية.

لكن التحليق على ارتفاع أكثر انخفاضاً يشي بشيء مغاير، لا يقلل من شأن "المُشتركات"، بيد أنه يمكّن المراقب الحصيف، والدبلوماسي المحترف، من التعرف على "الفجوات" التي تباعد ما بين البلدين، وتقريباً في مختلف الملفات التي سبق ذكرها، ما يجعل الحديث عن "حلفٍ استراتيجي" بين أقوى وأغنى دولتين خليجيتين، أمراً مجافيا للحقيقة.

(1)
ولنبدأ من اليمن، إذ على الرغم من تزعّم البلدين للحرب في الجارة الجنوبية، إلا أنهما دخلتا الحرب، بأجندات مختلفة... بالنسبة للإمارات، فإن أكثر ما كان يهمها هو إحكام السيطرة على جنوب البلاد، وتشجيع القوى الانفصالية، على العودة إلى "دولة الجنوب"، وللإمارات مطامع في الموانئ والجزر اليمينية، وما أن تحقق لها مرادها، حتى أعلنت مبكراً "انتهاء الحرب"، واتخذت قرارها بالانسحاب من اليمن، من دون تشاور مسبق مع الرياض، فيما الحرب ستمتر لسنوات عديدة لاحقة، وستبلغ ذرى جديدة، وستطال شظاياها العمق السعودي، وتهدد "درة تاج" الصناعة النفطية للمملكة: أرامكو... الموقف الإماراتي المنفرد ترك جرحاً غائراً في قلب "التحالف"، وأحاط العلاقات "الأخوية والمتميزة"، بظلال كثيفة من الشك، وشجع مغردين سعوديين، وبعضهم مقرب من دوائر صنع القرار في المملكة، على توجيه انتقادات لاذعة، لمن "خانوا بلادهم" و"طعنوها من الخلف"... لا بل أن أصواتاً سعودية بدأت تهمس بسؤال: "من يقود من؟"، هل السعودية التي ظلت تلعب دوراً قيادياً في المنظومة الخليجية هي من تقود التحالف، أم أن مركز صنع القرار قد انتقل إلى "ديوان ولي العهد الإماراتي"؟

الإمارات بخلاف السعودية، حافظت على أكثر من "شعرة معاوية" مع إيران:  أزيد من نصف مليون إيراني مقيم على أرضها، يمتلكون ألوف المؤسسات والشركات، ومليارات الدولارات من التجارة المتبادلة

سعى وليّا عهد المملكة وأبوظبي، إلى طي صفحة خلافاتهما، وعندما أخفقا، جهدا في إبقائه خلف الأبواب المغلقة، بيد أن الخلاف السعودي–الإماراتي في اليمن، سيصبح "سراً ذائعاً"، وسيتحول إلى شكل من أشكال "حرب الوكالة"، طرفاها فريق "الشرعية" بقيادة عبد ربه هادي الذي يجاهر بعدائه للإمارات، والمجلس الانتقالي الجنوبي وميليشيات أخرى، مدعومة من أبوظبي... وسيأخذ هذا الخلاف، شكل "تصفيات" و"اغتيالات" وعمليات كر وفر، لم ينفع "اتفاق الرياض"، ولا ما سبقه أو لحقه، من بروتوكولات وخطط تنفيذية، في إيقافها... وسيدخل التجمع اليمني للإصلاح، كطرف في هذا الصراع، بعد عمليات "التصفية" المنظمة التي تعرض لها قادته وكوادره، من قبل حلفاء أبو ظبي.

(2)

وسنعرّج على الملف الإيراني، إذ على الرغم من تبلور قناعة مشتركة بجدية "التهديد الإيراني" لأمن الدولتين واستقرار المنظومة الخليجية، إلا أن وليي عهد البلدين انتهجا مقاربات متفاوتة من حيث شدتها وتشددها وأدواتها.. الإمارات بخلاف السعودية، حافظت على أكثر من "شعرة معاوية" مع إيران:  أزيد من نصف مليون إيراني مقيم على أرضها، يمتلكون ألوف المؤسسات والشركات، ومليارات الدولارات من التجارة المتبادلة، واتصالات دبلوماسية رفيعة المستوى لم تنقطع، وقنوات تنسيق أمنية خلفية، مكّنت الإمارات من تفادي صواريخ الحوثي وطائراته المسيّرة... كل ذلك كان يحصل في الوقت الذي كان فيه ولي العهد السعودي، يتهدد إيران بنقل الحرب إلى داخلها، ويحرض في العلن على برنامجيها النووي والصاروخي، وبالأخص، ضد دورها الإقليمي "المزعزع للأمن والاستقرار" في المنطقة، ويدعم، على نحو شبه علني، حركات معارضة إيرانية، انفصالية ومسلحة، ويخوض أكثر المعارك ضراوة ضد حلفاء طهران في الإقليم، ويحشد في مواجهتهم كافة القوى المحلية المتضررة من الهيمنة الإيرانية على بلدانهم.

والمفارقة أن المقاربة الأكثر "نعومة" في التعامل مع ملفات طهران الشائكة والمتشعبة، كانت تصدر عن الدولة التي ما انفكت تتحدث عن "احتلال إيراني" لجزرها الثلاث، في حين أن المقاربة الأكثر "خشونة" كانت تصدر عن الدولة التي لم تنفك طهران عن "مغازلتها" والسعي لتفتيح قنوات التواصل والحوار معها، باعتبار أن تحسين العلاقة معها، كفيل بتفتيح كافة الطرق بين طهران وبقية عواصم الخليج، وما وراءها، لكن "فجوة الثقة" جعلت المسافة السياسية بين ضفتي الخليج، أكثر اتساعاً مما هي عليه جغرافياً.

(3)
وسنتوقف عند الملف التركي، بأبعاده القَطَرية والإخوانية المترابطة والمتداخلة، فقد أتى حين من الوقت، بدا فيه أن ولي عهد أبوظبي وولي العهد السعودي، يتبنيان المقاربة ذاتها من هذا "التهديد"... لكن التطورات اللاحقة، ستظهر أن الأمر ليس على هذا القدر من التبسيط، فيما المستقبل القريب يشي باتساع الفجوة في مقاربتيهما لهذه الملفات.

أنقرة أدركت أن الخلاف مع الرياض من النوع القابل للاحتواء، فالسعودية بخلاف الإمارات، لم تذهب بعيداً في التصدي لتركيا في ليبيا ودعم الجنرال حفتر

كان واضحاً منذ البدء، أن الإمارات نظرت للدور التركي المتنامي في الإقليم، ولاسيما في السنوات السبع أو الثماني الفائتة، بوصفه خطراً يتقدم على التهديد الإيراني، ذلك أن أنقرة تحتفظ بعلاقة تحالف و"توظيف" لجماعة الإخوان المسلمين، التي تنظر إليها أبوظبي بوصفها تهديداً داخلياً وخارجياً رئيساً، فضلاً عن التحالف الذي توثقت عراه مع الدوحة، بعد أزمة حصار قطر... وقد بدا لبعض الوقت، أن السعودية والإمارات، تتشاطران الموقف ذاته، لاسيما بعد أن اشتدت حدة التوتر بين الرياض وأنقرة على خلفية اغتيال جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول، وما استتبعها من تراشق إعلامي وسياسي وحرب اتهامات متبادلة بين الجانبين... ولقد خاض البلدان على نحو مشترك، عمليات "تعرّض" لتركيا، إن في الملف الاقتصادي والمالي الضاغط، أو في المسألة الكردية، وتحديداً في شمال سوريا.

مياه كثيرة ستجري في أنهار المنطقة، وستبدأ السعودية وتركيا بتبادل رسائل الغزل والرغبة في استئناف "العلاقات الأخوية – التاريخية"... أنقرة أدركت أن الخلاف مع الرياض من النوع القابل للاحتواء، فالسعودية بخلاف الإمارات، لم تذهب بعيداً في التصدي لتركيا في ليبيا ودعم الجنرال حفتر، وهي لم تتورط كثيراً في جنوب القوقاز، دعماً لأرمينيا في نزاعها مع أذربيجان، والسعودية لم تُتهم رسمياً بدعم "الانقلابيين" الأتراك، أو إقامة صلات مع الداعية فتح الله غولن، ولم تسع لبناء شبكات تجسس على أرضها، ولم تتورط في الحرب على "الليرة التركية"، وتلكم جميعها اتهامات كالتها أنقرة رسمياً وعلناً للإمارات.

يُرجح أن المملكة حزمت أمرها على ما يبدو، لاستئناف العلاقة مع قطر، من دون انتظار بقية أطراف "الرباعي العربي"، وربما نشهد قريباً فتحاً لأجوائها وحدودها البرية مع قطر

وسنشهد على عودة الاتصالات الرفيعة بين الرياض وأنقرة: الملك سلمان يهاتف أردوغان عشية قمة العشرين الأخيرة، ووزيرا خارجية البلدين يجتمعان في النيجر على هامش مؤتمر دول التعاون الإسلامي، والرياض تتنصل من حملة "المقاطعة الشعبية" للبضائع التركية، وتؤكد أنها لم تؤثر على الميزان التجاري بين البلدين، وثمة ما يكفي من الشواهد، على قرب ذوبان الجليد الذي غلّف العلاقات التركية السعودية خلال السنوات الفائتة، وبما يترك الإمارات وحيدة في مواجهة تركيا.

ارتباطاً بهذا، يبدو أن المياه بين الرياض والدوحة، في طريقها للعودة إلى مجاريها، لاسيما بعد الجهود الأميركية المبذولة لتحقيق هذا الغرض، ودائماً بهدف تطويق إيران وحرمانها من مبلغ 100 مليون دولار سنوياً، عائدات تحليق الطيران القطري في الأجواء الإيرانية... ويُرجح أن المملكة حزمت أمرها على ما يبدو، لاستئناف العلاقة مع قطر، من دون انتظار بقية أطراف "الرباعي العربي"، وربما نشهد قريباً فتحاً لأجوائها وحدودها البرية مع قطر... هذا التطور، سيترك أبو ظبي مجردة من الدعم السعودي في خصومتها مع الإمارة المنافسة في الخليج.

لقد كان واضحاً منذ بعض الوقت، أن الدوحة أدركت "الفوارق" في حسابات "رباعي الحصار"، فأولت جل تركيزها على المصالحة مع الرياض، على أمل تحييدها... قطر لا تكترث كثيراً بالموقف البحريني، ولديها أوراق قوة في علاقاتها مع مصر: العمالة المصرية، و"ميزان القوى الإعلامية" بين البلدين الذي يميل لصالحها، والأكثر أهمية بالنسبة للدوحة، هو "عزل" أبو ظبي عن شركائها الثلاثة الآخرين، لاسيما وأن "المنافسة" وليس "التعاون" هي من ستظل تقرر شكل ومستوى العلاقات القطرية الإماراتية في المستقبل.

أما في ملف الإخوان المسلمين، فلا شك أن الرياض، التي طالما تحالفات مع الجماعة واحتضنتها، انتهجت مقاربة عدائية تجاهها في السنوات الأخيرة، إثر صعود نجم محمد بن سلمان، لكن العداء السعودي للإخوان يحتمل مقاربات براغماتية، بخلاف الحال مع الإمارات التي تميل لانتهاج مقاربة "استئصالية" للجماعة... الرياض، لم تجد مشكلة بوجود الإخوان المسلمين البحرينيين تحت قبة البرلمان، بوصفهم جميعة مشروعة، وهي أقامت علاقات تحالفية مع "إخوان اليمن"، واحتضنت قياداته ودعاته، في حين لا تدع الإمارات فرصة تمر، دون أن تشهر راية العداء للجماعة... ودائماً سيكون بمقدور المملكة الاعتماد على قنوات تعاون خلفية مع هذه الجماعات، إن استدعت الحاجة، ولديها ما تفتقر له الإمارات في هذا المجال: "دبلوماسية الحج".

(4)
وسننهي في هذه المقالة، عند أحدث شقاق بين المملكة والإمارات، في مجال الطاقة، ومسرحه "أوبيك +" هذه المرة، حيث قررت أبوظبي "التمرد" على الإدارة السعودية للمنظمة، والمضي في تقرير حجم حصتها من الإنتاج، بمعزل عن قرارات المنظمة، وبالضد من الرغبة السعودية بالاستمرار في خفض الإنتاج، ملوّحة بالانسحاب من عضوية المنظمة، ما حدا بوزير النفط السعودي، للاستقالة من رئاستها، فيما حبل الجدل والخلاف، غير المسبوق أيضاً، ما زال ممتداً، ويشي بمزيد من التباعد.

(5)

مستقبل مجلس التعاون

لطالما كانت العلاقة بين الدول الأعضاء الست في المجلس الخليجي، قائمة على معادلة "التعاون" و"التنازع"، وإذ تغلّب التعاون على التنازع فيما بينها لمواجهة التهديد الخارجي: إيران ونزعتها لتصدير الثورة، فمرد ذلك كان عائداً للدور القيادي المهيمن الذي طالما لعبته المملكة، حيال شقيقاتها الخمس الصغرى، فضلاً عن مكانتها كحاضنة للحرمين الشريفين.

لكن صعود الشباب لسدة الحكم في غير دولة خليجية، من جيل الأمراء الأبناء المتطلع للعب أدوار خارج حدود بلاده، وامتلاكه لتراكم هائل من عائدات النفط والغاز، جعل وسيجعل من الصعب، احتفاظ المملكة بدورها القيادي المتفرّد، وغلّب وسيغلّب "التنازع" على "التعاون" في علاقاتها البينية... وسيكون من الصعب على المملكة التي تواجه "خصوصية عُمانية" متوارثة، ونظاماً أكثر ميلاً للتوازن والاتزان داخلياً وخارجياً في الكويت، أن تبسط نفوذها المهيمن على قطر والإمارات بعد اليوم... هذه الصفحة في تاريخ المجلس الممتدة لأربعة عقود، طويت أو هي في طريقها إلى ذلك، وإلى أن يتمكن قادة الدول الست، من الوصول إلى صيغة جديدة لعلاقات القوى وآليات رسم السياسة وصنع القرار في منظومتهم الإقليمية، سيظل "التنازع" سمة غالبة على عمل المجلس وأدائه.

لم تعد الدول الست تقرأ التهديدات الخارجية، وبالأخص سبل مواجهتها، بالطريقة ذاتها، ولم تعد الدول الأعضاء، تكتفي بـ"المظلة السعودية" لحفظ أمنها واستقرارها، وتعظيم مصالحها وأدوارها... قطر تجد في تركيا حليفاً استراتيجياً موثوقاً أكثر من السعودية والإمارات، وعمان والكويت تعتبران التوازن في علاقاتها الخارجية شبكة أمان لأمنهما واستقرارهما الداخليين، فيما تنظر الإمارات إلى إسرائيل، بوصفها "تعويضاً" مناسباً، عن "المظلة السعودية"، وداعماً مهماً في مواجهة "التمدد" غير المسبوق، لكل من تركيا وإيران في الإقليم... هذا أمر مزعج للسعودية، وربما يفسر، من بين عوامل أخرى، سر "القرارات المتناقضة" التي اتخذتها الرياض مؤخراً، في مسألة فتح أجوائها أمام الطائرات الإسرائيلية المتجه للإمارات، قبل دخول واشنطن على خط "الوساطة" لإزاحة هذه العقبة عن طريق التطبيع الخليجي – الإسرائيلي.

وإذا كان "تماثل" النظم السياسية "السلالية – البطريركية"، لدول مجلس التعاون، قد ساعد في إنجاح تجربة التعاون الخليجي، فإن التطلعات والطموحات التي يختزنها الجيل الجديد من الأمراء الشباب، سوف تقلص من أثر هذا العامل، بل وربما يصبح "التماثل" سبباً في استحداث "التنافر" في علاقاتها البينية، تماماً كما يحدث في فيزياء المجال المغناطيسي، لاسيما بغياب المؤسسية والتشاركية الديمقراطية في الحكم وصنع القرارات، وهذا ما قد يفسر رهانات البعض من النشطاء والمعارضين الخليجيين، على قرب انقضاء "شهر العسل" في العلاقة الوثيقة التي ربطت وليي العهد السعودي وولي عهد أبوظبي. 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.