ناشطون وصحفيون انتقدوا الأحكام واعتبروها "بسيطة" مقارنة بالجرائم
ناشطون وصحفيون انتقدوا الأحكام واعتبروها "بسيطة" مقارنة بالجرائم

خلال الأسابيع الأخيرة بدت المحاكم العراقية منشغلة بمقاضاة مسؤولين عراقيين سابقين بتهم فساد وإضرار بالمال العام، وحكمت على وزير سابق وعلى محافظ سابق بالسجن في قضايا منفصلة.

لكن الأحكام التي تصل بين عامين إلى خمسة أعوام، وعدم وجود آلية واضحة لاسترجاع الأموال المسروقة أو المهدورة، تطرح تساؤلات حول النتائج.

وزير البلديات السابق رياض الغريب المقرب من ائتلاف دولة القانون الذي يقوده رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، حكم بالسجن عامين، مع مدير عام في الوزارة بتهمة الإضرار بالمال العام على خلفية عقد لنصب وتجهيز 25 معمل إسفلت بقيمة 25 مليون دولار في العام 2007.

فيما أعلن مجلس القضاء الأعلى، الثلاثاء، صدور حكمين على محافظ نينوى السابق نوفل حمادي السلطان، الأول بالسجن بمدة عامين، والثاني بالسجن ثلاثة أعوام عن "جريمة إدخاله مشاريع تنظيف وهمية في المحافظة للعامين من 2017 إلى 2019".

ولايزال رئيس هيئة استثمار بغداد شاكر الزاملي ينتظر صدور حكم في قضيته منذ اعتقاله نهاية عام 2020 من منزله في العاصمة، بتهم منح عقود استثمارية بشكل غير أصولي.

كما أن القضاء العراقي طلب في ديسمبر 2020 رفع الحصانة عن النائب، خالد العبيدي، وزير الدفاع العراقي الأسبق، بتهم فساد تتعلق بعقود تسليح.

الحكم على المحافظ

ويقول الصحفي المتخصص في قضايا الفساد في محافظتي نينوى وصلاح الدين، زياد السنجري، إن الحكم على محافظ نينوى هو في قضيتين فقط من أصل 15 قضية مرفوعة ضده في المحاكم، مؤكدا أن "فترة نوفل حمادي السلطان كانت فترة فساد وتأسيس لثقافة الفساد بعد تحرير نينوى من داعش".

ونوفل حمادي السلطان هو أول محافظ لنينوى، ومركزها مدينة الموصل، بعد تحريرها من سيطرة تنظيم داعش، وبحسب السنجري الذي تحدث لموقع "الحرة" فإن الرجل "كان يشارك قادة الميليشيات في مبالغ عقود إعمار المحافظة".

السنجري الذي يقود حاليا حملة إعلامية لكشف ملفات فساد في المحافظة يقول إنه اكتشف "استيلاء فاسدين وعناصر ميليشيات ومزورين على 5 آلاف قطعة سكنية تابعة لمحافظة نينوى"، كما ينشر وثائق تبين بحسبه وجود تلاعب في عقود وقعتها المحافظة بمبالغ تصل إلى نحو 100 مليار دينار عراقي (نحو 70 مليون دولار).

ويقول السنجري إن "القضاء العراقي قرر أخيرا التحرك ضد الفاسدين في نينوى"، لكنه يشير إلى أن "منهج الفساد موجود حتى الآن".

وبحسب السنجري فإن "نوفل حمادي السلطان اعترف على عشرات الأسماء من المتورطين معه بعمليات الفساد"، مضيفا "كان فساد حمادي السلطان مفضوحا وواضحا إلى درجة أنه يبدو كأنه تحد أكثر من محاولة لإخفاء الفساد".

ولم تعلق السلطات القضائية العراقية على مجريات محاكمة العاكوب لموقع "الحرة" أو المعلومات التي لديها عن قضايا أخرى أو معتقلين محتملين.

نوفل حمادي السلطان

الوزير والمدير

وبنفس المادة القانونية التي سجن العاكوب على أساسها سجن وزير البلديات الأسبق، رياض الغريب، والمدير العام في الوزارة، هاشم عبد الزهرة، لمدة عامين "حبسا مشددا".

وأعطت المحكمة العراقية المتخصصة بقضايا النزاهة الحق لوزارة البلديات بمقاضاة المسؤولين مدنيا من أجل الحصول على تعويضات.

وفيما لم يجبر القضاء العراقي في حكمه وزير البلديات أو محافظ نينوى على إرجاع الأموال التي تربحاها عن طريق العقود الوهمية، فإن المحامي والخبير القانوني، علي التميمي، يقول لموقع "الحرة" إن هذا من اختصاص المحاكم المدنية.

ويضيف التميمي إن الإدانة مهدت الطريق للدعوى المدنية، مضيفا أن المدة التي يحكم بها القاضي تحدد من خلال جسامة الجريمة والسجل الجنائي لمرتكبها.

لكن الصحفي العراقي، أحمد السهيل، يقول إن "التعاطي المتساهل مع قضايا الفساد في العراق منذ عام 2003 وحتى الآن، كان أحد أكبر المحفزات لتفشي الفساد في البلاد".

وزير البلديات العراقي الأسبق رياض غريب

عقوبة بسيطة؟

وبحسب السهيل فإن "الأحكام الأخيرة والتي طالت مسؤولين متهمين بقضايا فساد بملايين الدولات ولم تتعد بضع سنوات، ولا تتلائم مع حجم التهم الموجهة للمتهمين، وحجم الأموال المنهوبة أو المهدورة، بل إنها ستكون محفزا لبقية المسؤولين الفاسدين للاستمرار، خصوصا أن فترة الحكم لا تبدو مشددة أبدا".

وبحسب المحامي والخبير القانوني العراقي، حسين السعدون، فإن "القاضي لا يستطيع أن يحكم بمدد تتجاوز السقف القانوني للعقوبة المنصوص عليها في المادة القانونية التي يتم التحاكم عليها".

وتصل مدة العقوبة القصوى في المادة 340 من قانون العقوبات العراقي المتعلقة بالإضرار العمدي بأموال الدولة إلى سبعة أعوام.

ويقول السعدون لـ "موقع الحرة" إن أغلب القضايا المحالة إلى النزاهة يتم التحاكم عليها بالمواد القانونية المتعلقة بالإهمال الوظيفي أو الإضرار العمدي بالمال العام.

ولا يستطيع القضاء، بحسب السعدون مصادرة أموال المتهم في هذه القضايا، لكن من حق الدائرة المتضررة أن تقاضي المسؤول عن تضررها.

لكن مصدرا من الشعبة القانونية في وزارة البلديات قال لـ "موقع الحرة" إن الوزارة "لم تكمل بعد ملف الاتهام"، ورفض كشف وجود نية للوزارة لمقاضاة وزيرها الأسبق من عدمها، كما لم يوضح التقدم الحاصل في إعداد ملف الاتهام.

ولم يتمكن "موقع الحرة" من الحصول على إجابات من الشعبة القانونية في محافظة نينوى حول النية لمقاضاة المحافظ السابق.

وحتى في حالة المقاضاة، يقول المحامي السعدون لـ "موقع الحرة" إن "المسؤول الذي أخفى الأموال المتحصلة بطرق غير مشروعة، خاصة إذا كانت أموالا سائلة، سيتمكن من المحافظة، عليها لأن القانون لا يمنح القضاء سلطة سوى حجزه لأربعة أشهر للضغط عليه من أجل تسليم الأموال، وبعدها سيتم اللجوء إلى تسوية لتقسيط المبلغ بمبلغ قد يصل إلى خمسين ألف دينارا في الشهر (30 دولارا)".

وبحسب الصحفي السهيل فإن "القانون بهذه الحالة يمنح للمحتالين ما يشبه الحصانة للحفاظ على الأموال التي سرقوها مقابل قضاء فترات قليلة في السجن ودفعات شهرية بسيطة".

ويقترح المحامي السعدون أن "الحل يكمن في تقوية النظام المالي العراقي بحيث لا يسمح للأموال غير المشروعة بالتداول، وتقوية نظام التحقيق المالي، واعتماد بيانات السيرة المالية للمسؤولين وأقاربهم والرقابة المستمرة عليهم".

عراقي رفع دعوى ضد شركة "بي بي" لاعتقاده أن مرض ابنه كان سببه حرق الغاز بأكبر حقل نفط بالعراق
عراقي رفع دعوى ضد شركة "بي بي" لاعتقاده أن مرض ابنه كان سببه حرق الغاز بأكبر حقل نفط بالعراق

يسعى العراقي حسين جلود، الذي فقد ابنه بعد صراع مع سرطان الدم، إلى الفوز في معركة قضائية ضد شركة "بي بي" البريطانية، لاعتقاده أن مرض ابنه كان سببه حرق الغاز في أكبر حقل نفط بالعراق.

ويطلب جلود المثقل بالديون، أن تدفع له الشركة التي كانت تعرف باسم "بريتش بتروليوم"، تعويضاً يغطي مصاريف علاج نجله، بما يشمل علاجه الكيميائي وعملية زرع نخاع العظم، ثم جنازة علي الذي توفي في أبريل 2023 عن 21 عاماً.

ويقول جلود (55 عاماً) من منزله المتواضع قرب حقل الرميلة في محافظة البصرة بجنوب العراق: "علي لا يعوّض بمال ولا أكثر من مال، لكن ما أطلبه هو حقي".

ويضيف أن تحركه ضد شركة النفط البريطانية العملاقة "ليس من أجل علي فقط، وإنما أيضاً للفقراء والمصابين والذين توفوا في المنطقة". 

وفي 22 أبريل الماضي، أرسل جلود خطاباً إلى الشركة يشرح ادعاءه، لكن في حال عدم التوصل لاتفاق أو عدم حصوله على رد يرضيه، فإن المرحلة الثانية ستتضمن إجراءات أمام المحكمة، وفق شركة المحاماة "Hausfeld & CO" التي تمثل الوالد المكلوم. 

و"بي بي" من أكبر وأقدم شركات النفط العاملة في العراق، وأحد أكبر منتجي الخام في العالم، وتتواجد في بلاد الرافدين منذ العشرينيات من القرن الماضي.

وتعمل الشركة في حقل الرميلة بشراكة مع مجموعات أخرى، بينها شركة نفط البصرة المملوكة للدولة.

وفي عام 2022، وثقت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في تحقيق بشأن ارتفاع خطر الإصابات بالسرطان قرب حقول النفط العراقية، حياة علي جلود الشغوف بكرة القدم، والذي شُخصت إصابته بالمرض في 2016.

ويروي والده أنه خلال لقائه الطبيب، سأله الأخير أين تقطن العائلة، وعند إجابته أنه قرب حقل نفط ومحارق غاز، رد: "هذا هو سبب إصابة علي بالسرطان".

انبعاثات مسرطنة

ولم ترد شركة "بي بي" على طلب فرانس برس التعليق، لكنها قالت في بيانات رداً على "بي بي سي"، إنها "لم تكن يوماً الجهة المشغلة لحقل الرميلة، بل تقاضت الرسوم على شكل مخصصات من النفط الخام لقاء خدمات تقنية تقدمها".

وأعربت عن "قلق شديد" تجاه ما ورد في تقرير "بي بي سي"، مشددة على أنها "تعمل مع شركاء في الرميلة". وأشارت لانخفاض بنسبة 65 في المئة في حرق الغاز خلال السنوات السبع الماضية، وأن العمل مستمر لتحقيق خفض إضافي.

وإحراق الغاز هو التخلص من الغاز الطبيعي المصاحب لاستخراج النفط، ويعد مصدراً أساسياً لتلوث الهواء عبر انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكاربون وغاز الميثان الخام والكربون الأسود.

وحذرت منظمة "غرينبيس - الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" في بيان الشهر الماضي حول قضية جلود، من أن حرق الغاز ينتج "عدداً كبيراً من الملوّثات المرتبطة بالسرطان، بما في ذلك البنزين".

وفي كل مرة يفتح فيها جلود باب منزله، أول ما يراه هو مشاعل حرق الغاز والدخان الأسود الكثيف، مؤكداً أن رؤيته يومياً لما يحمّله مسؤولية رحيل ابنه يولّد في نفسه "شعوراً حزيناً".

وأمام منزله، يلعب أطفال كرة القدم أو يركبون دراجاتهم الهوائية، غير مدركين للخطر المحدق بهم في الهواء، وفق الأب المكلوم.

وفي عام 2022، بلغ إجمالي ما تم حرقه 139 مليار متر مكعب حول العالم، وفقاً لبيانات البنك الدولي.

ويعد العراق  ثاني أكثر دولة بعد روسيا التي تحرق الغاز المصاحب عالمياً، وقد بلغ مجمل ما تم احراقه في 2022 نحو 18 مليار متر مكعب، بحسب المصدر ذاته.

وانضم العراق عام 2017 إلى مبادرة عالمية أطلقها البنك الدولي، تقضي بوقف حرق الغاز بحلول 2030. 

وتؤكد الحكومة في بغداد سعيها إلى وقف حرق الغاز المصاحب واستغلاله لتشغيل محطات الطاقة، مما يقلل اعتمادها على الغاز المستورد من إيران، الضروري لإنتاج الكهرباء. 

وأعلن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، في مايو، أنه يسعى لإنهاء حرق الغاز المصاحب خلال 3 إلى 5 سنوات، لـ"إيقاف الآثار البيئية المدمرة لهذه العملية".

وتقدم وزارة النفط العراقية الدعم لقطاع الصحة في البلاد ومن بينها محافظة البصرة المعروفة بإنتاج النفط. وقد أعلنت وزارة الصحة في فبراير عن إجراءات لمكافحة السرطان، بينها اتفاق مع شركة نفط البصرة لبناء مركز للأورام. 

واضطر جلود، وهو أب لسبعة أبناء، لبيع مصوغات ذهبية وأثاثاً منزلياً، والحصول على قرض مصرفي، إضافة الى الاقتراض من أصدقاء، لتغطية علاج علي ثم جنازته. 

ويقول إنه على غرار آخرين، يعيشون قرب حقل النفط، لكن إمكاناتهم المادية لا تسمح لهم بالانتقال إلى مكان آخر. 

ونقلت شركة المحاماة الممثلة لجلود أنه وفقاً للقانون العراقي، يُمنع أن تكون مصافي النفط على مسافة ما دون 10 كيلومترات من منطقة سكنية. لكن "الأدلة" تشير في حقل الرميلة إلى أن حرق الغاز يتم على بعد 5 كيلومترات فقط من مجمعات سكنية. 

ويقول جلود: "نعيش هنا رغم الصعوبة والخوف من هذا المرض"، مشيراً إلى أنه يعتقد أن كثيرين في المنطقة أصيبوا بالسرطان نتيجة حرق الغاز.

ويضيف: "الهدف من هذه الدعوة (ضد بي بي) ليس فقط علي، وإنما التقليل من الغاز (المحترق)، وتأمين مستلزمات طبية للمرضى مجاناً، ومساعدة الفقراء غير القادرين على الانتقال إلى مكان آخر".